السجن للزعماء: عند البحث عن تاريخ السجون نرى أن أول مرة يذكر فيها السجن في الكتاب المقدس كان ذلك في مصر، عندما أخذ فوطيفار يوسف ووضعه في بيت السجن، المكان الذي كان أسرى الملك محبوسين فيه.. والكلمة العبرية المترجمة (سجنا) هنا هي (سوهار) وهي في اللغات السامية تدل على مبنى مستدير تحيط به الأسوار، ولذلك يظن أن يوسف وضع في إحدى القلاع أو الحصون التي كان يقيم فيها رئيس الشرطة، وكانت السجون المصرية تستخدم اماكن للعقاب بالعمل الشاق، أو الحبس في انتظار المحاكمة، ولكن يوسف الذي دخل السجن مظلوماً ولفقت له تهمة بدليل مزور، لأن ثوبه الذي أمسكته إمرأة العزيز، هو لم يعبأ وإنما تركه لها حتى إن الشاعر يقول: ذلك الثوب خذيه.. إن قلبي ليس فيه، وكان يوسف في السجن أميناً وناجحاً، وكان الرب مع يوسف، وبسط إليه لطفاً، وجعل له نعمة في عيني رئيس بيت السجن، فدفع رئيس بيت السجن إلى يد يوسف جميع الأسرى الذين في بيت السجن، وكل ما كانوا يعملون هناك كان هو العامل، ولم يكن رئيس بيت السجن ينظر شيئاً البتة مما في يده، لأن الرب كان معه ومهما صنع الرب كان ينجحه، وهكذا كان يوسف بطل الاستقامة والإيمان زعيماً وهو في السجن، كان سجيناً لكنه كان مسؤولاً عن السجناء، حيث وضع رئيس بيت السجن ثقته فيه (تكوين 39)، وهنا بدأ الرب يتدخل لكي يخرج يوسف من السجن إلى العرش عندما جاء اليه مسجونان الساقي والخباز، وخدمهما يوسف وأكرمهما، وحلم وحلما كلاهما حلماً في ليلة واحدة، كل واحد حلمه، وكانا كلاهما مغتمان، وعندما لاحظ يوسف هذا سألهما عن أسباب الغم، وكان الغم في الحلم، وقصد يوسف أن يفسر لهما حلمهما، ولكنه أكد لهم أن هذا ليس منه إنما من الله، وكان حلم الساقي أنه في كرمة، وفي الكرمة ثلاثة قضبان انتجت عنباً، فملأ منها كأس فرعون وأعطاها ليده، وجاء تفسير يوسف أن الثلاثة قضبان هي ثلاثة أيام بعدها يعفى عنه فرعون ويرجع إلى موقعه، وطالبه أن يذكره أمام الملك لأنه قد سرق من أرض العبرانيين، ووضع في السجن دون أن يفعل شيئاً، كان حلم رئيس الخبازين أنه.. يحمل ثلاث سلال على رأسه، والسل الفوقي فيه طعام فرعون، والطيور كانت تأكله، وكان تفسير يوسف للثلاث سلال، ثلاثة أيام بعدها يرفع فرعون رأسه عنه ويموت وتأكل الطيور لحمه، ومضت الأيام حتى حلم فرعون حلمه الشهر وتذكر الساقي يوسف، وجاء يوسف ليفسر الحلم، وخرج بهذا من السجن إلى العرش. الزعيم الأزهري: ونذكر اليوم الزعيم الأزهري ونحن نحتفل بالذكرى السعيدة للاستقلال المجيد، زعيماً ونذكره سجيناً، وكان يخرج من السجن إلى العرش لكي يكون في موقع زعامته، لقد كان محبوباً من الكل، ولكن لا بد له أن يدفع ثمن زعامته ووطنيته، لقد كان الأول في كل شئ، كان أول دفعته في الدراسة، وكان أول شاب يسافر إلى بريطانيا مترجماً وله من العمر ثمانية عشر عاماً، وكان هذا عام 1919م، وكان أول سكرتير لمؤتمر الخريجين عام 1938م، وأول رئيس للدورة السنوية للمؤتمر، وظل رئيساً له باستثناء 1942م، 1944م، وأول رئيس لحزب الأشقاء، وربما يكون أول من ترك الوظيفة وتفرغ للعمل الوطني، وهو أول رئيس وزراء لحكومة وطنية في 6 يناير 1954، وكون أول حكومة وطنية انتقالية في 9 يناير 1954م، وهو أول زعيم سوداني نفذ صوته إلى العالم عندما قاد وفد بلاده إلى مؤتمر عدم الانحياز في باندونج مع سوكارنو، ونهرو، وجمال عبد الناصر، وتيتو، وقد أسند اليه سوكارنو رئاسة أهم لجان المؤتمر، وهي اللجنة السياسية، وهو أول من رفع علم الاستقلال في أدب جم واحترام شديد دون توتر، وهو أول زعيم سوداني يرفض السكن في قصر حكومي، ويدير شؤون بلاده من بيته المتواضع في بيت المال، وبيته ينقصه المال الآن وتنقطع عنه الكهرباء، وقد ظل الأزهري زعيماً يترأس وفد بلاده طالباً الحرية والاستقلال في انجلترا وأمريكا وفرنسا والاقطار العربية، وحمل هذه الرسالة ما بين عام 46 حتى الاستقلال 1955م. ونتشرف بأن اسماعيل الأزهري كان أول زعيم سوداني وطني يفتتح كنيسة قبطية تأكيداً للوحدة الوطنية، وكان هذا في يوم 6/4/1968م في حبرية البابا كيرلس السادس واسقفيه الأنبايؤنس، ورئاسة الدكتور وديع جيد للجمعية القبطية وسكرتارية الأستاذ جريس أسعد، وبحضور مشرف من محمد أحمد محجوب الزعيم المرهوب والعظيم ولفيف من الوزراء ورؤساء الكنائس، واعتز بأنني أخدم في هذه الكنيسة وبأن وثيقة الافتتاح ممهورة بتوقيع اسماعيل الأزهري ومحمد أحمد محجوب. وكان لابد لاسماعيل الأزهري أن يدخل السجن، ولقد دخله أربع مرات هما: 1/ في نوفمبر 1948م لتزعمه الدعوة لمقاطعة الجمعية التشريعية، التي قال إنه لن يدخلها حتى لو جاءت مبرأة من كل عيب، مادامت في ظل نظام استعماري . 2/ حكم عليه بالسجن لاتهامه الانجليز بخلق مجاعة بشرق السودان بسبب انتشار مرض السل. 3/ المرتان السابقتان ليستا في غرابة المرة الثالثة حيث أرسل خطاباً ضد انقلاب عبود وطالب بذهابهم وعودة الديمقراطية، فاعتقل من العساكر وارسل مع مجموعته إلى جوبا ثم إلى ناقشوط بورسودان. 4/ اعتقله نظام مايو ووأودعه في سجن كوبر، وعندما ذهب للعزاء في شقيقه سقط على الأرض من شدة الإعياء والإجهاد، وذهب إلى المستشفى ومات شهيداً في 26/ أغسطس 1969م، وفي محاكمة النظام العسكري للرموز السياسية العظيمة، أصدرت المحكمة قراراً هزيلاً بعدم مناداة الأزهري بأنه شهيد، ولا أدري ماذا أقول ولكن يعتز الوطن باسماعيل الأزهري زعيماً، وسجيناً، وشهيداً.