منذ أن لمع اسمه قبل سنوات في العمل السياسي العام، الذي أجبره على الخروج من قاعات الدرس في الجامعات، ظل الدكتور كمال عبيد يستوقفني كلما جرى نقاش جاد حول أي من القضايا الكبرى، وهو حاضر البديهة، صافي الذهن، مستعد للحوار في أية لحظة، بعيداً عن ساحات الانفعال، الذي يقود إلى الخروج من طريق المنطق، الذي هو أقرب الطرق بين نقطتين سياسيتين، وهو من الوزراء القلائل الذين تجدهم وقتما تريد بالنسبة لنا كصحفيين، ويظل هاتفه مفتوحاً على الدوام، حتى أنه إن لم يرد عليك في حينه فتأكد أنه لا محالة سيعود لك من جديد، ويعتذر بأنه كان في اجتماع. مساء السبت الماضي، كنت على موعد مع قناة الشروق الفضائية، للتداخل في نشرة أخبارها الرئيسية مع خبر مرتبط بعطلة البرلمان، وتقييم أدائه منذ تكوينه وحتى إعلان عطلته النهائية قبل أيام.. موعدي كان التاسعة إلا ربعاً في الأستديو، بالرياض، في الخرطوم، لأستعدّ للمشاركة في النشرة الرئيسية (السودان اليوم) المرتبطة بإستديوهات البث الرئيسية في «دبي». في ذلك المساء كان تلفزيون السودان يبث مناظرة سياسية، آثر مقدمها أسامة الخليفة أن يسحب منها اسم (مناظرة)، وهذا تواضع منه ومن التلفزيون، وأسماها لقاء أو مقابلة مع اثنين من الرموز القائدة في المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، هما: الدكتور كمال عبيد، والسيد باقان أموم، وهذا الأمر في حد ذاته، أي لقاء الرجلين، جاء برداً وسلاماً على كل صاحب حسّ سياسي سليم، حيث جاءت رسالته واضحة، تفيد بأن الشراكة بخير. تحدث الرجلان يسوّق كل منهما لما يؤمن به ويعتقد، وظن بعض أصحاب الأقلام والزملاء، وكثير من قبيلة العمل السياسي أن تلك الحلقة كانت معركة، خسر فيها من خسر، وانتصر من انتصر، رغم أنها لم تكن كذلك، وقد بدأ الرجلان حديثهما - كل على حدة - في استعراض الأزمة الوطنية، وهذا أمر مهم، يبيّن لعامة الجمهور والمتفرجين تقييم كل حزب لتلك الأزمة من منظور فكري وفقهي وسياسي يحكم آيدلوجية الحزب ويحددها، وتأتي أهمية هذا الاستعراض من أهمية التعرف على عقلية الحزبين الشريكين، ومناهجهما العلمية في التعامل مع الأزمة لإيجاد الحلول. عقارب الساعة كانت تتجه بسرعة غير ملحوظة نحو التاسعة مساء، وهاتفي يرنّ ولا ألتفت له، بل كنت أدعو زملائي في إدارة الأخبار بالصحيفة للرصد الدقيق والمتابعة.. وكان هاتفي يواصل الرنين بلا انقطاع، فرفعته نحو أذني ورددت على المتصل .. (الله..) خرجت مني طويلة ممدودة، تنمّ عن الأسف والخجل معاً، فقد كان المتحدث هو زميلنا الأستاذ هاشم عبدالسلام من قناة الشروق يستفسرني عن الأسباب التي عطلتني، فقد كانت الساعة هي التاسعة.. واعتذرت وقلت له: إنني سأتوجه نحوك الآن، فتكرم الرجل ولم يسألني عن السبب، بل قال لي: إنه سيحيل الخبر موضوع التحليل والمناقشة إلى آخر النشرة.. وقد كان. خرجت من ستديو الشروق بالخرطوم وقلبي وسمعي معلقان بما كان يبث في تلفزيون السودان، وقد (استمعت) لما تبقى من تلك المناظرة، من راديو السيارة على الموجة (88) إف إم، التي تنقل صوت برامج التلفزيون، وسعدت حقيقة لما سمعته من الدكتور كمال عبيد، الذي لم يكن وقتها ناطقاً رسمياً فقط باسم الحركة الإسلامية، أو المؤتمر الوطني، بل كان مع تلك الصفة معبراً عن قاعدة حزبه، وشكّل بلغة أهل كرة القدم رأس الرمح في الهجوم، وقلب الدفاع عن صلب القضايا والأفكار والسياسات.. وظل مثلما أشرنا في بداية هذه الزاوية، حاضر البديهة، صافي الذهن، مستعداً للحوار في أية لحظة، بعيداً عن الانفعال الذي يقود للخروج عن طريق المنطق، الذي هو أقرب الطرق بين نقطتين سياسيتين، في طرف الأولى المؤتمر الوطني، وفي طرف الثانية الحركة الشعبية.