في الحلقات الماضية (نحن والديمقراطية) تحدثت عن بدايات التنظيم السياسي الحديث في سودان ما بعد اتفاقية القاهرة في 31/12/1897م وسقوط النظام الأول وعقابيل الحرب العالمية الأولى، وحدوث الانقلاب العثماني وظهور حركة الكماليين وما أثارته من آثار وتداعيات في أرجاء الأمبراطورية السابقة وولايتها، وطبيعة التغيير في العالم الغربي المتحكم في ما بعد في أقدار هذا الجزء من العالم، وبزوغ الحركات الوطنية في الأقطار المجاورة لا سيما مصر التي شهدت حركة سياسية نشطة في ظل ثورة 1919م وجمعيات الاتحاد المصري، واللواء، والحراك السياسي الذي قاده سعد زغلول ورفاقه، والمناداة بحرية الأمة بل ونشوء حزب الأمة (لطفي السيد) في مواجهة الحزب الوطني (مصطفى كامل) وآخرين، إلى آخر القائمة التي تطول بين من يدعون إلى الاستقلال التام أو الموت الزؤام، ومن ينادون بنصرة الخلافة والحرص على الروابط الإسلامية مع دولة الخلافة، وبزوغ حركة صحافية وفكرية وثقافية تركت آثارها هنا وهناك وامتد تأثيرها إلينا جنوباً، فقامت تنظيمات موزاية هنا كجمعية اللواء الأبيض وجمعية الاتحاد وما أفضى إليه كل ذلك من أحداث 1924م، وما تلاها من تحولات وتغيرات في طبيعة الروابط بين شمال الوادي وجنوبه. { ولكن الذي يهمنا هنا هو تتبعنا لنشوء وتطور هذه التنظيمات إلى حين قيام مؤتمر الخريجين، وبزوغ الحياة السياسية بشكلها الذي مهد لقيام الأحزاب السياسية في منتصف العقد الرابع من القرن الماضي. وكما قلنا فإن تلك الأحزاب لم تحتمل السباق والسياق الديمقراطي ولم تقبل الآخر وطرحه وأطروحاته، واستعجلت قطف الثمار واستعانت بالآخر (الجيش والبندقية والتآمر) والكيد الذي وصل حدود تسليم السلطة، بل والانقلاب في وضح النهار (الأول في 17 نوفمبر 1958م) والثاني في يوليو 1971م، وغير ذلك من (الثورات) والانقلابات الناجحة والمجهضة. هذا هو الماضي المحزن لتنظيماتنا السياسية وهذا هو ماضيها غير المبرأ من العيوب. وكمال قال المسيح عليه السلام - ونحن نحتفل بعيد ميلاده العظيم: من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر. فالكل أسهم بقدر ما في نحر الديمقراطية ونبذ الشورى وتقوية الشمولية وتجرئتها على الرأي والرأي الآخر.. { سؤالي الملح هو: هل أحزابنا هذه قادرة على أن تمنحنا ديمقراطية؟ هل تستطيع أن تصوغ لنا ديمقراطية؟ هل نأمل في تغيير ديمقراطي؟ هل نحلم بالشورى؟.. هل نحترم مرة واحدة رأي الشارع السوداني، أم يظل صراع الديكة مستمراً..؟! وهذه الأحزاب - كلها - ما لم توحد قياداتها وقواعدها، وما لم تعتمد وتحترم وتشيع الشورى والديمقراطية عبر مؤسساتها ومنهجها ونظمها لن تقدم لنا شيئاً، ففاقد الشيء لا يعطيه، وأول جوانب إصلاحها هو توحيدها هي كأحزاب سياسية ذات مناهج موحدة ورؤى استراتيجية واضحة، وأهداف معلنة تتحاور بوحدتها حول تحقيقها، فإن لم تفعل ذلك وبأعجل ما يكون قبل حلول موعد الاقتراع والانتخاب فلن ينجح مسعاها.. وسيكون شعارها تلكم المسرحية العالمية الذائعة الصيت (خاب سعي العشاق).. والعشاق هذه المرة هم عشاق الديمقراطية.