(الميارم) و(ميرم تاجه) و(حجر قدو)، مفردات على كل لسان، فأنت تسمعها على امتداد ساعات اليوم، إما مرتبطة بالمسرح الذى هو أبو الفنون وإما بالطعام الذى هو سيد الفلسفات، وإما بالمياه التى بها يحيا ويموت إنسان دارفور وأي مخلوق ومنذ الأزل، ولذلك حين يقال لك(حجر قدو) يقال معها(الشربو قبلو جو) إنه الحجر الرمز دليل الحياة والسلام والتواصل والتفاؤل، ولا نجد لسحره مثيلاً إلا( مياه توتيل)، ما شربها إنسان إلا وعاد اليها، كما تقول الرواية المحببة على لسان الشاعر(هلاوى) وآخرين ولا يكاد يجادل بشأنها أحد. نأتى الى حكاية(ميرم تاجه) أنه اسم المسرح الذى شهد إبداعات الطلاب وابتكاراتهم الثقافية، وحينما وصلناه فى أول المساء لم نحظ بمقعد، فبادر المنظمون باخلاء مقاعد لنا، لكنا فضلنا أن نتفرج وقوفاً انحيازاً لغالبية الجمهور، وتحية للمناسبة التى من مقتضياتها: (قف للمعلم ووفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا). فلقد تذكرنا أنهم وراء كل هذا الإبداع ووراء هذه اللغة السليمة والأزياء البليغة على خشبة المسرح... كانت هذه أول ملاحظاتى كمعلم سابق وشاهد على بروفات المسرح القومى بين يدى الأستاذ الفكى عبد الرحمن الذى تعرفون، عليه رحمة الله. إنى منذ عصر هذا(الفكى) المهيب أحد حراس لغتنا الجميلة على المسرح والإذاعة والتلفزيون لم أشهد(حالة مسرحية) طاغية الدلالة لغة وإيحاء كما يبدو الأمر على مسرح ميرم تاجه هذا، الذى بدا مسيطراً على أجواء الزمان والمكان، ومحتشداً بمعانى الإبداع والتربية ودلائل (القومية)تلك، التى ارتبطت باسم مسرحنا العتيق بأم درمان. هيبة المسرح ووقاره وسحر رسالته أنستنا الحرب، وذكرتنا بمعنى أن يسمى(أبو الفنون). مسرح ميرم تاجه بالفاشر رد الاعتبار لهذا اللقب الشارد وسط انصراف بعض أهله الحداة وغبن من جاءوا بعدهم، وتحت تأثير بريق بعض الفضائيات وانغماس أخرى فى(سلق البيض). إن مسرح ميرم تاجه أعاد الأذهان لأمجاد الدراما الهادفة. فابداعات الطلاب تواترت مع كل دورة مدرسية، ونهلت من منابع التنوع الثقافى على امتداد البلاد، وجمعت بين سحر الإمتاع وذكاء الرسالة،تذكرنا أن فكرة(المسرح المدرسى) سبقت الدورة المدرسية بمبادرات الأستاذ المربي شفيق شوقى عليه رحمة الله،(منتصف الستينيات) ومهدت لبعدها الثقافي والإبداعي فأفلحت فيه... لقد جفت عروق المسرح القومي حيناً من الدهر وبقي المسرح المدرسى صامداً يلهب الخيال ويعالج ما يعالج. بلدنا هيلنا .. دموعها دموعنا أساها اسانا .. ضميرها ضميرنا إن المسرحية التى شهدناها كانت من ابداعات طلاب ولاية شمال دارفور وبعنوان(حجر قدو) وانتهت للقول بشفافية بالغة وعشم نبيل: (الحجر استجاب، فمتى يستجيب البعيد ؟). فهمنا الرسالة وفهمنا أن كلمة(ميرم)التى ارتبطت باسم هذا المسرح هى مفرد(ميارم)، التى شكلت حدثاً دارفورياً فريداً وملازماً لهذه الدورة المدرسية. وقد اتخذتها نساء الولاية اسماً لنفرتهم الفياضة، التى تعهدت أن تتولى ضيافة أبناء وبنات الولايات، وكأنهم بين أسرهم مازالوا وقد كان، مما شكل حدثاً اجتماعياً تربوياً لافتاً للأنظار، وشكل محوراً لأسئلة الصحفيين ودهشتهم ومادة إعلامية بكرة للإذاعات والقنوات الفضائية كما شاهدنا. (الحالة المسرحية) للدورة المدرسية ربما كانت هى الأبرز بين المناشط والمنافسات، وبينها ماهو رياضة وكرة قدم لا تبقي ولا تذر، فبخلاف انتظام العروض بمسرح ميرم تاجه المزدحم بالجمهور كانت هناك مسارح جانبية نظمت فى مناطق مختلفة ومتباعدة من المدينة، ولم تكن أقل ازدحاماً وتنافساً بين الولايات وحضوراً من أهل الفاشر. إن الأعمال التى تقدم على المسرح أججها التنافس بين الولايات ووجود حكام عتاة من الإذاعة والتلفزيون وكلية الدراما. وربما كان من بين عناصر التأجيج والإقبال والتزاحم والحرص على الفوز، الشعور بغياب المسرح فى حياة الناس منذ تناقص الدعم المستحق له، ومع تزايد سيطرة ماهو قادم من الخارج عبر الوسائط الرقمية الخاطفة للأنظار والأذهان وربما الوجدان. على كل حال شكراً للدورة المدرسية التى أبقت على اسم المسرح وعلى فعل الثقافة فى زمن اشتدت فيه الحاجة لمكونات أصول المعرفة، وفى عالم متغير دونه معززات الهوية والبقاء على قيد خرائط الأوطان الحرة. حفلت فعاليات الدورة بمظاهر العمل الثقافي الطاغي، فهناك الى جانب العروض المسرحية ذلك الحدث الثقافى الكبير-( القرية الثقافية)- والبرنامج المصاحب باذرعه المتعددة تربوياً ودعوياً واجتماعياً وتواصلاً مع أهل دارفور، كما شهدنا فى معرض قصر السلطان على دينار وفى حلقات النقاش بمنزل الوالى تبادل الأفكار وتخصيب الجدل. هكذا زحفت مساحة الثقافة بين مكونات الدورة حتى كاد الناس ينسون أنها بدأت دورة رياضية ومازالت بطاقة الدعوة تذهب فى موعدها الى الأستاذ أحمد محمد الحسن كرمز للقيادة التاريخية، التى ارتبطت بالفكرة فى صدر السبعينيات من القرن الماضي، وانطلقت من معقل القسم الرياضي بجريدة الصحافة الذى كان يتزعمه الأستاذ حسن مختار عليه رحمة الله. اتسعت الفكرة بمبادرات من رموز الصحافة والتربية والإعلام التربوي، لهم جميعاً التحية ورحم الله من رحلوا عن الدنيا، تاركين وراءهم مثل هذا العمل الصالح بإذن الله. أين يذهب هذا الحصاد؟. بل أين يصب كسب الدورة كله، تربوياً وإبداعياً ووطنياً؟. مثل هذه الأسئلة تتردد مع انفضاض السامر فى كل مرة، ولعل دورة الفاشر تأتى بحلول الوالي، والوزارة، وإدارة النشاط الطلابى، جميعهم يتحدثون فى اجتماعات التحضيرعن أهمية التوثيق، وبدأت أمثلة عملية، الوالي أعلن عن إعداد أقراص مدمجة تحوى الفعاليات، وتكليف آلية لتوثيق تراث دارفور. وتعهد الوكيل د. المعتصم عبد الرحيم بتبني عدة أفكار برزت خلال الدورة، من شأنها أن تضفي على العملية التعليمية والتربوية مظاهر المواكبة لعالم التقانة ونزعة التأصيل، كما نرى فى مقالنا القادم. إن(رعاية النتائج) مشروع وشيك التحقق، فإنى أعلم بحكم مشاركتي فى التحضير لهذه الدورة ولدورات سابقة، أن الأستاذ علي عثمان محمد طه نائب رئيس الجمهورية يضيف لأعبائه فى صمت مثل هذه الشؤون التربوية، يكفي أنها تربوية لتحظى بهذا المستوى من اهتمام الدولة، فإذا صلحت التربية صلحت السياسة، وصلح الأمر كله . ولمثل هذا نواصل بإذن الله.