تحكي الأسطورة اليونانية أن إله الحرب نفث من صدره شواظاً من لهب، وأرسل الغربان على مدينة الأطفال فتحولت المدينة إلى ركام من الخراب، وزحفت الأفاعي تحت الرماد، ومن بين تلك الفوضى انتفض نسر أبيض رمح بجناحيه فوق المدينة حتى نبتت زهرة بيضاء، ترعرعت وأصبحت عشتار إله الحب الذي تربع على عرش مدينة فينسيا. برحمة من ربي وببركات شيخ أسرتنا شقيقي الأصغر الدكتور سعد جاءت رحلتي إلى مدينة الفاشر مهنئاً والدتي وأسرتي بنيل شيخنا لشهادة الدكتوراة في الإعلام والاتصال بدرجة الامتياز.ظل حضوري المتواتر منذ العام 2005م إلى مدينة الفاشر مرتبطاً ببرامج جامدة في المؤتمرات واللقاءات والعمل الإنساني، وجاءت زيارتي الأسبوع الماضي ذات طابع اجتماعي بحت، تفرغت فيها للتجوال راجلاً في كل أحياء المدينة وخرجت حتى أطرافها القصية، فتبدت لي الفاشر في صورة غير تلك التي عرفتها قبل سنوات قلائل، يوم كانت المدينة محبوسة بحزام من القلق والنهب والموت، وحين كانت سماؤها عند مغيب الشمس تمتليء بومضات الرصاص والقذائف العشوائية، ويوم كان تجار القطاعي والإجمالي في سوق الفاشر يفتحون أبواب محالهم نصف كم ويشدون أحذيتهم للمخارجة قبل أكل السوق من المتفلتين والعابثين بالقانون، وكيف كانت الفاشر تتحول في الليل إلى مدينة الأشباح الأسطورية، ويرفع المؤذن الأذان لصلاة المغرب من خلف باب موصود وخلف جدران، تشابكت فوق الأسوار الأسلاك الشائكة، وفروع شجر الكتر ذات الأشواك السامة. زيارتي الأسبوع الماضي تزامنت مع نشاطات الدورة المدرسية القومية التي استضافتها مدينتي الحبيبة، وكانت تغلي كالمرجل من حراك الضيوف والطلاب بسحنات كل أهل السودان، ففي الفترة الصباحية وحتى مغيب الشمس تتواصل الأنشطة الرياضية والتصفيات في ضروب الرياضة والأكاديميات، وفي المساء ترتفع مكبرات الصوت بمهرجانات الفنون والإبداع من غناء ومسرح وفنون شعبية، وأرتال من البشر يسيرون في الطرقات حتى الساعات الأولى من الصباح، وكل هذا يحدث وأنا موجود هناك ولم تلتقط أذني صوت طلقة واحدة ولم أسمع (بخروقات أمنية) كما يعبر صديقنا. أما الثانية فإن إلهة الحب عشتار خرجت من جناح النسر في غرب المدينة بين الوادي والجامعة، وبين المطار ومعسكر أبو شوك، في تلك المنطقة التي يعرفها زملاؤنا في الدفعات المختلفة لمدرسة الفاشر الثانوية حين عودتهم للداخليات ليلاً، متسللين من السينما كانت جلحاء موحشة مليئة بالزواحف والثعالب، في هذه المنطقة أشهد أني حضرت ختاناً.. مدينة الفاشر الأخرى امتلأت بالفلل الأنيقة والفخمة وارتفعت الطوابق في عماراتها إلى الأربعة وما دون، ونهضت مجمعات أخرى للمصالح الحكومية والوزارات الولائية وكافتريات بخدمات راقية، تستهوي الأجانب قبل أهل المدينة، ومقاهي للإنترنت وأطباق الفضائيات تعشعش في سطوح العمائر ودار الأرقم، ومستشفيات تخصصية سعودية ووطنية ومباني للأبحاث الزراعية، ومقار للبعثة المشتركة للأمم المتحدة وعمارة مشروع أبو حمرة، ومفوضية العون الإنساني أصبح لها بوابة واستقبال ومكاتب أرضيتها بالسيراميك، بعد أن كانت مقبرة للدواب في مقرها السابق بحجر قدو. أثناء تجوالي في حي المطار وحين عودتي بحثت عن الكبري الذي يمثل مدخل المدينة من المطار، فقد اختفت تلك المعالم المهزوزة وأصبح مكان الكبري جسر لشارع مسفلت في اتجاهين، وهذا لعلم أصدقائي مكي سنادة والدكتور هجو محمد، ودفعة أبناء سنار وأبناء أم درمان الذين يحفظون ودهم للفاشر الثانوية، وتحولت الأسلاك على الجانب الأيمن على الطريق إلى فلل وأصبح مسرح الجيش معلماً، ومن الجانب الشمالي مبنىً أنيق هو مستشفى السلاح الطبي الجديد ومنزل قائد القيادة الغربية، أما قلب المدينة وصرتها مكان مسجد السلطان علي دينار الأثري، الذي يقع في تلك الربوة أمام أمانة الحكومة وشمال بيت السلطان، قام بها مسجد السلطان الجديد ذو المئذنتين المشرئبتين نحو السماء، تحمل كل جماليات وزخرف الفن الإسلامي، يمثل المسجد فناراً يهدي الضال والضهبان من أقاصي أطراف المدينة من الجهات الاربع، وشرق قبة السلطان مبنى من طابق واحد يمثل الطابق الأرضي صالات المكتبة الفخيمة ذات المناضد الزاهية للإطلاع، والى جانب المكتبة صالة لعرض الكتب ومعارض للفنون بأحدث المواصفات.. أما الطابق الأول فهو المركز الإعلامي ذو المواصفات الدولية، التي قل أن تجدها في أية بقعة من أرض السودان، أو المؤسسات ووكالات الأنباء بالعاصمة القومية، فهو مزود بأجهزة الحاسوب واللاب توب مربوطة بشبكة لاسلكية (ware less)، وقد امتلأ المركز بالإعلاميين والصحفيين الذين يقومون بتغطية الدورة المدرسية يتواصلون مع مؤسساتهم داخل وخارج السودان عبر الإنترنت- تلك الربوة أصدقائي مثلت مركز اشعاع ومعرفة وعقيدة وتكنولوجيا وتمدين، وحين يمتد منك البصر شرقاً فإن (الفولة) انفلقت إلى شقين توأمين يمر بينهم الجسر وتتكيء على النقعة التي أصبحت مسرحاً بأحدث المواصفات، ومدرجات على الجهات الأربع، وأحاط بالنقعة سور من المحال التجارية البديعة الهندسة في مواجهة رباعية الإبداع شرقاً والذي يمثل الجانب الغربي من سوق الفاشر الكبير، أطلت رباعية العمارات عمارة برج الفاشر، عمارة التأمين الصحي بمستوصف جبل مرة، وعمارة الضرائب والمحامين بالجدران الزجاجية والإطارات المصنوعة من النيكل. أشهد أن تلك ما رأت عيناي وقدحت في ذاكرتي لحظات الحرب اللعينة، وحين حدثتني أمي بعد ضرب مدينة الفاشر بقولها(دار غرب خربت يا وليدي)، وهاأنذا وأمي أطال الله عمرها نشهد بزوغ الشمس،وأن الفاشر محمية ولن تضيع أبداً، وخوفي عليكم من صرعة سوق المواسير. ولله الحمد