السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مدني أرض الخير والجمال.. فبأيِّ ذنب قُتلت..!!
نشر في الأهرام اليوم يوم 08 - 03 - 2011


د. عبد الحميد أحمد محمد صالح
حظيتُ بالانتساب إليها يوم ألحقت بالأبحاث الزراعية في العام الثالث من العقد السبعين. وفي طريقي إليها للمرة الأولى، لم يفارق نظري أرض الجزيرة الممتدة بساطاً أخضر زاهياً يزدان في ذلك الوقت بلوزات القطن وحبوب الذرة، فبهرتني بسحرها وشدت كل جوارحي إليها حتى أدركت أننا على مشارف مدينة مدني.
وما أن تعايشت بالمدينة بضعة أيام حتى فهمت لماذا يقصدها كل عروسين لقضاء أجمل أيام العمر، وأدركت لماذا يتجه إليه كل من أراد أن يقضي عطلة هادئة ممتعة، ولماذا تستهوي هواة الطبيعة وعشاق الجمال والإبداع؛ فقد وجدتها مدينة مرتبة، نظيفة، هادئة، وتتمتع بطقسها الجميل وأشجارها وخضرتها وأزهارها في كل مكان خاصة بمنطقة الأبحاث وبركات وشارع النيل ونادي الجزيرة والحدائق الأخرى هنا وهناك، وحتى منطقة السوق الرئيسي بوسط المدينة كانت لوحة سياحية جميلة. أرض منظفة ومرشوشة بالماء، طاولات وكراسي خارج المحلات، أنوار وزينة على مدى البصر، محلات مليئة بالسلع والبضائع وحركة دائمة لا تنتهي حتى منتصف الليل.. وأمام المقاهي والمطاعم ومحلات الحلويات وبالأندية والمراكز يلتقي الزملاء والأصدقاء، الإخوة والأحبة، الأنساب والأقرباء وحتى أصحاب الأعمال والمصالح المشتركة، يقضون مساءهم سمراً وذكرى، سياسة ورياضة، أدباً وفناً، علماً وعملاً، حيث تتفاعل وتتكامل في تلك المجتمعات كل شرائح المجتمع وفئاته من موظفين وعمال وطلاب وتجار وعسكر وغيرهم وتتباين الحوارات والأحاديث في العلم والأدب والفكر والإبداع. فكانت المدينة بإهلها المتميزين بصفات الإلفة والمودة والكرم والشهامة، والوعي والثقافة، يشكل مساؤها جامعة أهلية مفتوحة تخرج منها ذوو الفكر الثاقب والتجربة الناضجة والرؤية الشاملة. فلكم أنجبت هذه المدينة للسودان مئات الشعراء والأدباء وأهدت السودان كل عمالقة الفن والطرب وقدمت إليه أبطال الرياضة ورواد السياسة وبزغت منها شموس العلم والمعرفة والإدارة والقيادة.
ومن أن تشقشق عصافير الصباح بأشجار المدينة حتى يطل عليها أهالي الجزيرة من كل حدب وصوب بجلابيبهم البيضاء وعمائمهم الزاهية وأجسادهم القوية الفارعة وبوجوهم وملامحهم التي تدل على سعادة الرضا، وأنعم الصحة والعافية ويسر الحال، فيحركون اقتصاد المدينة بيعاً وشراء، ويملأون مرافق الدولة الإدارية والتعليمية والطبية يقضون مسائلهم فيتجلى بوجودهم تفاعلاً وتناغماً وتكاملاً فريداً يجسد العلاقة بين الريف والحضر ويؤسس التوازن بين الأخذ والعطاء.. لم لا؟ وجميعهم من أم واحدة وهي أرض الخير التي لا تنام حتى تشبع أبناءها.. ولا تهدأ حتى تغطي المياه كل حقولها.. ولا تستكين حتى تدور محالجها وتدوي مصانعها وتتحرك مطاحنها وتهدر معاصرها بعد أن ملأت مخازنها وصوامعها ذرةً وقمحاً وحبوباً. هكذا كانت الجزيرة وهكذا كانت مدني في وقت كانت فيه بلا ولاة وبلا وزراء وبلا جيوش من المديرين وعشرات من المحليات هكذا كانت بلا مجالس نيابية أو تشريعية أو شورية.. هكذا كانت قبل المراكز الوجائهية والقصور الرخامية والسيارات المظللة المتغطرسة بأعلامها والمحليات المتصارعة والمتسارعة لا لتقديم خدماتها وتحسيناتها للمواطن، بل لتتفنن وتبدع في فرض الرسوم والجبايات ونهب لقمة الخبز من أطفال المواطنين، فاستقلت كل محلية بوحداتها الإدارية وبأسواقها الخاصة بعد أن باعت الأراضي وقبضت رسوم التراخيص.. فخلت أسواق مدني من أصحاب العمائم البيضاء وتوقفت حركة التجارة ودب الشلل في أسواقها وأحيائها حتى منذ قبل مغيب الشمس.. وشيئاً فشيئاً بفضل المحليات المتعطلة أهملت إضاءة الطرقات وساد الظلام كل أرجاء البلد وهجر التجار متاجرهم وكان هذا بداية التحول والشلل والاحتضار الذي اكتملت حلقاته بإصدار شهادة وفاة الجزيرة بقانون 2005م، وتم توزيع الميراث بحل إدارة المشروع ودمار بنياته التحتية وبعثرة ممتلكاته، ثم تعطيل مصانعه وتفكيك محالجه وصهر معداتها وقطاراتها وخطوطها.. وكل ذلك تحت شعارات وهمية ووعود هلامية بالنفرة والنهضة والاستثمار والتصحيح والتنمية فجفت الترع وامتلأت عشباً ونفايات ومياهاً آسنة بعد أن كانت تتدفق عليها المياه العذبة كتدفق الدم في الشرايين وأصيبت أراضي الجزيرة بداء الفشل الصيفي الذي تطور إلى داء الخيبة الشتوية وأضحت الجزيرة سيرة منسية أزالت معها كل جماليات الماء والخضرة والوجه الحسن، ونتيجة لذلك تبدلت حال أهلا بؤساً وعسراً ومعاناة.. فتمزقت جلابيبهم واصفرت عمائمهم وصرفت مدخراتهم وبيعت ممتلكاتهم وتشرد عيالهم بحثاً عن عمل ولو هامشي يرسلون عائده إلى أهليهم العطالى الذين وعلى مر التاريخ والأعوام قد رووا الأرض بعرقهم وخدموها بسواعدهم يوم كنا نؤمن بأن الجزيرة هي العمود الفقري للاقتصاد السوداني. أما وبعد أن أنكرنا وجحدنا فضل الجزيرة علينا، لم يهجرها أهلها فحسب بل حتى أن الطيور والعصافير التي كانت تبني أعشاشها مستوطنة أرض الجزيرة هاجرت عنها ولم يتبقَ منها اليوم سوى بضع بومات يتيمات وعشرات الغربان الحيارى وبني الخفاش الذين لم يساعدهم النظر ليهتدوا إلى طريق الخروج.. تلتقي هذه الجماعات ليلاً لتحلق على أرض الجزيرة في موكب جنائزي حزين تبكي فيه تاريخ الجزيرة الزاخر بالبطولات والكرم والعطاء ممتد من قبل رحيل المستعمر عن أرض البلاد.. وتتحسر كل ليلة على الشلل العضال الذي عمَّ كل أطراف الجزيرة حتى وصل إلى أم رأسها بود مدني التي أصبحت حالها تحزن الأنفس وتقبض القلوب وتدمي الأعين بشوارعها المعتمة وطرقاتها الممتلئة حفراً ومطبات والمغطاة بالإتربة والنفايات.. ولكن حتى لا نكون مبالغين في الوصف وننكر فضل المحليات بمدني فإننا نقر بوجود بعض المناطق التي لم ولن تشهد قطوعات الكهرباء وبعض الشوارع التي تضاء ليلاً ونهاراً حيث يسكن من نسأل الله أن يرضى عنا كما رضيت عنهم سلطات المحليات.
أما أسواق المدينة بمواقعها ومسمياتها المعروفة فقد أصبحت جميعها بلا تحديد حالة نادرة تعكس مجموعة من المظاهر المستعصية التي يمكن أن تعتبر أمثلة حية تصلح لتدريس طلبة الهندسة وتدريب ضباط الإدارة والصحة والبيئة.. ولا أدري كيف أصفها أو ماذا أقول عنها.. فهي حقيقة أصدق وأشمل من الكلمات بكل لغات العالم ومعاجم الدنيا.. ولا تجد كلمات أو عبارات تصف بها الأوساخ المتراكمة والروائح النتنة والنفايات المتكدسة والمنخفضات الممتلئة مياه راكدة يعف الذباب عن الاقتراب منها فلا ينتابك الشعور إلا وأنك في بلد مهجور بعد زلزال 10 رختر أو بعد إعصار مدمر مثل إعصار سانت آنا أو أن هذا البلد لم يعرف المحليات بكل مكوناتها من العمالة الإدارية والفنية المسؤولة عن توفير خدماتها المتنوعة للمواطن المغلوب على أمره.. وعلى النقيض سبحان الله، فعندما تلج مكاتب المحليات تجد جيوشاً من العاملين والعاملات المنهمكين في ألعاب الحاسوب والمستمتعين بالمؤانسة والضحك والمنشغلين بالسندوتشات والشاي والجرائد والمجلات في جو شاعري بين الستائر والمعطرات والمراوح والمكيفات. والحق يقال إن كل هذه المشاغل والجدية في العمل لا يزيدها متعتها إلا الاستمتاع بتحرير إيصالات الجبايات وإتعاس المواطن بالرسوم الخيالية التي لا تتماشى مطلقاً مع دخل المواطن الذي لا يعي حتى معاني مسمّياتها ومقاصد مبرراتها. عموماً فإنك تخرج من لدن تلك المحليات وأنت واثق بأن ترميم الطرق الخربة وتحديث الأسفلتيات وتسوية الشوارع وإزالة الاوساخ وردم المنخفضات وإضاءة الطرق ومكافحة الناموس والذباب وتشجير الحدائق والطرقات وغيرها من الخدمات ليست من واجبات ومهام المحليات بعد أن كنا نعتقد ظلماً أنها من صميم مسؤولياتهم. ولهذا فإنّا نستغفر الله ونتوب إليه.. ونأسف ونعتذر عن هذا الظن السيئ إذ ما عاد الأمر كذلك، كما علمنا من السلف الصالح، عندما كان ضباط الصحة يمرون بدراجاتهم شارعاً شارعاً ويتفقدون الصحة العامة بيتاً بيتاً، وعندما كان عمال الرش يدخلون البيوت والأسواق والمدارس بصورة دورية لمكافحة الحشرات، وعندما كان ترميم الطرق الأسفلتية يتم بصور فورية والزحافات تمر على الطرق الترابية وفق برنامج متواصل، وعندما كان.. وكان.. يا ما كان في قديم المحليات والزمان.. عندما كانت الخطوات للأمام دون أن نعي انقلابها للخلف دور.. وكمثال لتناقض اتجاهات الحركة بين المواطن والمحليات فكثير منا وكنتاج للتقدم الطبيعي قد شيدوا ومن مالهم الخاص فللاً وعمارات في امتدادات وأحياء جديدة ولكن مر على تلك الأحياء عشرات الأعوام ولا زال معظمها بلا أسفلتيات أو ردميات أو إضاءة أو تصريف. فعلى ما يبدو لي أن أصحاب تلك العمارات قد ساروا في اتجاه التطور العمراني والرقي وهو اتجاه معاكس لأهداف وبرامج المحليات.
وعندما أُجريت الانتخابات الولائية الأخيرة، انتخب أهل الجزيرة عموماً وود مدني خصوصاً أحد أبناء الولاية المشهود لهم بالصلاح والمأمول منهم الإصلاح الذي بدأ بالفعل بجدٍ وكد ليقدم الممكن لمواطني الجزيرة وود مدني، على الرغم من محدودية الإمكانات المتاحة والمتوفرة لديه، وانطلاقاً من ذلك فقد قام بتعيين لجنة عليا لتنفيذ برامج فنية لتجميل مدينة مدني. ومع أنني أحد الذين سعدوا بذلك الخبر إلا أنني عدت بعد ذلك وقلت ليته لم يفعل.. وليته وجّه تلك المبالغ لأعمال أُخر.. ليس إنكاراً لأهمية وضرورة تجميل المدينة.. ولكن لأنني أدركت أن مثل تلك اللجان كعادتها هي الحاضر بالمكتب الغائب عن الميدان.. ولهذا وكما نشاهد بأعيننا فما أنجز عمل حتى آخره، بل يتوقف العمل وبه الكثير من العيوب والنواقص.. فتأمل شارع السكة حديد، الجمهورية، الزمالك وغيرها من الطرقات التي سُفلتت في الفترة الماضية.. لا زال بكلٍ منها بعض العيوب وكثير من النواقص التي لا يحتاج استكمالها للكثير من المال أو الزمن أو الجهد ولا زلت أتساءل لماذا لا نكمل أي عمل إنشائي حتى آخر مراحله لتكتمل صورته الخدمية والجمالية المرجوة منه؟ ولماذا لا نعمل وفق خطة متكاملة المراحل ونتقن أعمالنا بصورة علمية مثالية؟ ولماذا نرضي دائماً بأنصاف الحلول؟ ولماذا لا نسعى للارتقاء بالمواصفات ونهتم بالجماليات.
صدقوني، فقد كنت في قمة السعادة عندما بدأ رصف جانبي طريق النيل (بالانترلوك) منذ بضعة أشهر.. غير أني وبسرعة فائقة وصلت إلى قمة الاستياء والإحباط عندما شهدت العمل بعد تقدمه وبعد استكماله.. شيء مؤسف ومخجل حقاً ووصمة عار على جبين المسؤولين عن ذلك العمل؛ حيث كان من الممكن أن يتحول شارع النيل إلى لوحة فنية رائعة، إلا أن غياب الإشراف الفني والمتابعة الهندسية مع غياب الضمائر جعل ذلك الانترلوك غالي الثمن ومتعدد الألوان يقع الآن تحت طبقات من الطين والإتربة.. لماذا؟ لأن العمال المكلفين بإنجازه قد قاموا برصفه مع أو دون مستوى الأسفلت ولهم عذرهم لغياب الإشراف والتوجيه بغياب المهندسين المختصين؛ حيث كان من الواجب أن يتم رصفه أعلى من سطح الأرض بنحو خُمس المتر وهو الارتفاع المطلوب للحواجز الأسمنتية الجانبية للأسفلت التي كان من اللازم تركيبها أولاً ثم التعلية بالردم قبل الرصف، بحيث يكون من الممكن كنس الأرصفة بصورة دائمة وغسلها من فترة لأخرى حتى يبدو جمالها وتؤدي دورها الذي من أجله صُرفت تلك المليارات بدلاً عن دفنها معه تحت الأتربة التي تبللت وتماسكت بمياه غسيل السيارات المصطفة على جانبي الطريق بدلاً عن وضع أعداد من الأصص الملونة الحاملة لأنواع مختلفة من الأزهار، ولا ندري ماذا وكيف سيكون الحال في موسم الأمطار بعد أن تم رصف الانترلوك دون فتح المصارف اللازمة لتصريف المياه.. وليت سيادة الوالي يلقي نظرة فقط على الانترلوك الواقع أمام مباني الحكومة الذي صادق على تنفيذه وميزانياته، حتى يتمكن من مساءلة القائمين عليه ومحاسبتهم واستبعادهم عن أي أعمال مستقبلية طالما أكدوا عدم درايتهم وعدم متابعتهم للعمل، وفاقد الشيء لا يعطيه.
مما سبق يبدو أن مشاكلنا الحقيقية التي تحط من إنجازاتنا وتجعلها دائماً متخلفة عن غيرنا وخالية من أية لمسات جمالية نتدارك فيها أخطاء الماضي؛ تتركز أساساً في أزمة الضمائر ووجود فئة من العاملين لا تحرص على الجهد والعطاء ولا الأمانة والوفاء إنما تكتفي بتزيين الأقوال ورفع التقارير المزدانة التي تشير إلى إنجاز العمل على أكمل وجه، على الرغم من أن المسؤول لم يكلف نفسه بالمتابعة ولو لمرة واحدة، ولهذا لم استعجب كثيراً عندما رأيت مجموعات تقوم بتزيين طريقي السكة حديد والجمهورية حتى يمر عليها موكب رئيس الجمهورية، ولماذا تم العمل بطريق الجمهورية في بضع أيام في حين أن الآخر لم يكتمل حتى بعد مرور نحو عامين..!! ولم استعجب عندما رأيت أعلاماً كبيرة عُلقت لتغطي جدران مبانٍ بكاملها من المباني القديمة بذات الشوارع، ولم استعجب عندما قامت المحلية بنظافة كوبري حنتوب بل وغسله بالماء.. وربما كانت تلك هي المرة الأولى..!!
في تقديري كانت زيارة السيد الرئيس فرصة طيبة ندعم بها السيد الوالي ليشكو ضعف إمكاناته المتاحة، فنمر برئيسنا عبر طرقات المدينة المختلفة ونتجول به بين طرقات المنطقة الصناعية والدرجة والمزاد وبركات مايو وغيرها حتى يرى ما وصل إليه حال مدينتنا بكل وضوح وشفافية دون أن نستحي من ذلك؛ فهو خراب تراكمي ليس للوالي الحالي يد فيه وليس بإمكانه أن يصلح ما افسده الدهر دون أن يحصل على الدعم المركزي اللازم. ولهذا فقد كانت فرصة طيبة ليجد السيد الوالي كل الدعم الممكن من رئاسة الدولة حتى يتمكن من إحداث التطور الذي يأمله ويحقق التحسينات التي أثق أنه يفكر بها.
وفي تقديري أن مثل هذه البطانة التي تبطّن الحقائق وتغيّر الواقع وتمنع الوضوح وفي ذات الوقت لا تؤدي عملها بضمير حي وروح وطنية؛ هي الفئة التي قتلت ود مدني في صمت وبرود وتركونا حيارى لا نعلم بأي ذنب قُتلت؟!
ومن هنا أرجو أن يسمح لي البروف أن أقول لسيادته إننا نعول عليك كثيراً بعد الله، ونأمل من جهدك وعطائك الكثير لرفعة الولاية وإحياء مدني، فرغم إقرارنا بموتها إلا أن الله سبحانه وعدنا بقوله «اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا» الحديد (17). فما أيسر من أن تتحوّل مدني بعد موتها إلى أجمل عروسات السودان إن وفقكم الله في اختيار الأيدي المعينة لكم والأعين التي ترى وتعكس لكم الصورة على حقيقتها. أما جماعة حلو اللسان وقليل الإحسان وتمام يا ريِّس فهؤلاء عليكم دفنهم تحت أكوام الأتربة وطبقات الطين التي تغطي الأسفلت وأرصفة الانترلوك الزاهية.
هذه المدينة تحمل كل مقومات الجمال التي تجعل منها منتجعاً سياحياً فريداً ومتنفساً رسمياً وشعبياً لأهل السودان عموماً والخرطوم خصوصاً ومركز قومياً لاستضافة المسؤولين وعقد المؤتمرات المحلية والدولية وملاعب حديثة للمنافسات الرياضية الإقليمية والعالمية وتستوعب مطاراً مؤهلاً للرحلات الجوية وأسواقاً للأوراق المالية ورحماً خصباً لقيام المشاريع الاستثمارية وغير ذلك إذا ما توفرت الأفكار والعزيمة والضمائر والوطنية ومتى ما سحقنا الفاشلين والمتقاعسين والمرائين وحزب ال10% إن لم تكن قد زادت بزيادة قيمة الدولار.
والله المستعان
مدني الأبحاث بالمعاش
خبير سابق/ الفاو - السعودية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.