مثلكم تماماً ما كنت لأصدق ما سأحكيه لكم لولا أنني قد رأيت ما رأيت بأم عيني هاتين- وتستمد الوقائع التالية طرافتها من غرابتها ومن تكرارها على مدى شهر كامل كنت قد أمضيته في أبيي.. ويعود تاريخ الطرفة إلى بواكير خريف عام 1977م بجنوب كردفان، حيث كنت ضمن إرسالية شرطة الاحتياطي إلى أبيي للحيلولة دون وقوع الاشتباكات المعهودة بين المسيرية والدينكا في مثل ذلك الوقت من كل عام.. وبما أن أبيي كانت تفتقر إلى وسائل الترفيه في ذلك الوقت، فإن التجمعات المسائية والتي كانت ترتبط بمعاقرة الخمر (العرقي على وجه الخصوص)، كانت هي الوسيلة الوحيدة المتاحة لتزجية الفراغ، سيما وأن تناول الخمور كان من العادات المفهومة اجتماعياً وإن لم تكن مقبولة.. ولكنها كانت ظاهرة اجتماعية لا ينكرها أحد إلى أن قيض الله الرئيس نميري ليضع حداً لتلك الظاهرة في سبتمبر من عام 1983م ? ولعلي (أخرم) بكم (تخريمة) صغيرة لأنها مرتبطة بموضوع الخمور، حيث أنني كنت قد التقيت بالرئيس نميري (عليه رحمة الله) في جلسة طويلة بعد وجبة غداء بمنزله بالقاهرة، حكى فيها كثيراً من تجاربه في الحياة في السودان ولدهشتي وجدته عارفاً بقائمة طويلة من أسماء المشروبات البلدية من (العرقي والمريسة والقامزوت والسوكر سوكر وما إلى ذلك) وكان أن سألته سؤالاً صريحاً ( طيب يا سيادتك ما دام إنت وصلت بقناعتك الشخصية إلى فساد الشراب وعدم جدواه ليه ما خليت كل زول يصل للقناعة دى براهو ويتوب إلى الله التواب الرحيم) فرد عليّ بقوله: (أنا في الحقيقة قررت أوقف الشراب في السودان، لأننا وصلنا مرحلة لو ما ولعنا النار في القزازة ما بتقوم من القعدة).. وحكاية ( وليِّع) النار في القزازة دي طبعاً بعرفوها شباب ما قبل 83م.. رحم الله النميري وجزاه خيراً عم المجتمع السوداني لاتخاذه ذلك القرار..على كل أعود لحكاية أبيي، حيث دعانا قائد حامية أبيي إلى ميس الضباط في مساء اليوم التالي لوصولنا، حيث بدأت الجلسة بعد العشاء.. وقال لنا السيد الرائد قائد الحامية (ح أوريكم حاجة غريبة الليلة) وعبأ كأسه وتجرعه، وما أن وضعه على التربيزة فإذا (بأبو دقيق) كبير الحجم رمادي اللون يقذف بنفسه إلى داخل الكأس.. وقام الرائد بنفضه من الكأس واستبدله بآخر، في المرة الثانية شاهدنا حشرتين وليست واحدة من نوع (أبو الدقيق) قد رمتا بنفسيهما داخل الكأس من جديد.. وكانت المفاجأة الطريفة والغريبة أن السيد الرائد قد قام بسكب بعض من العرق فوق التربيزة، فإذا بالحشرتين ترتكزان على سطح التربيزة هذه المرة، وقد غمستا خرطوميهما داخل العرقي المسكوب (وهات ياشفط)، وبعد قليل ترنحا وسقطا من على التربيزة و (تقاودا) مع بعض (وأظنهما كانا يغنيان كمان) وأختفيا عن الأنظار.. ولقد تكرر ذلك المشهد بحذافيره يومياً طوال شهر كامل إلى أن غادرت أبييي.. طبعاً ما مصدقني، لكن والله ده الحصل بالضبط.. وهكذا عالم الشرطة دوماً مليء بالغرائب والطرائف. الدفعة (27) من ضباط الشرطة واحدة من العلامات المضيئة في التاريخ، فقد اشتهر ضباطها ببراعتهم ونجاعتهم الشرطية وحبهم وغيرتهم على المهنة، ويكفيها فخراً أن ثلاثة من أبنائها المميزين قد تقلدوا منصب المدير العام، وهم عبد المنعم سيد سليمان.. هجو الكنزي، وعمر الحضيري.. وذات مرة كان الفريق هجو الكنزي في طريقه بطائرة الشرطة إلى الفاشر، وكان برفقته إثنان من أبناء دفعته هما اللواء عمر الحضيري، واللواء إبراهيم الكافي، وكان ذلك الثلاثي يشكل قيادة الشرطة زمنذاك، وكان في وداعهم بالمطار مجموعة من كبار الضباط من بينهم الضابط الأديب الساخر اللواء الزبير إبراهيم الزبير، فسأله أحد المودعين (إنت ما ماشي معاهم ياسيادتك)، فرد عليه اللواء الزبير بطرافته المعروفة (نمشي وين نحن مع فرقة الأصدقاء دي!) فضحك الثلاثي حتى بانت نواجذهم. كثيراً ما ترتبط حالات الإحالة للمعاش ببعض من المواقف الطريفة.. وفي جلسة لطيفة جمعتني بالأخوان اللواء محمد الطيب عبد القادر، واللواء إبراهيم علي أحمد، واللواء عوض السيد عبيد بمكتب الفريق إبراهيم الكافي بمفوضية الانتخابات بشارع البلدية.. حكى لنا اللواء محمد الطيب حكاية إحالته للمعاش والتي أشتهرت وسط أصدقائه من الدفعة (27) بقصة (الابتسامة الناقصة)، واللواء محمد الطيب رجل فكه ونكتة ومعروف بأنه (مصيبة معلقة بي سبيبة- إذا انقطعت السبيبة وقعت المصيبة). قال اللواء الطيب إنه كان نائماً بعد يوم متعب من الدراسة بأكاديمية الشرطة، وأيقظته زوجته من النوم وقالت له ( التليفون عايزك).. ويقول اللواء محمد الطيب (لقيت هجو في التليفون وقعد يسلم عليّ ويسأل عن الأولاد والأحوال، وأنا قلت هجو ده وراهو حاجة.. فقلت ليه أها الحاصل شنو) قال لي ( والله طلع كشف الليلة).. (كشف شنو؟) (كشف ترقيات واسمك فيه) وطبعاً أنا اتبسطت وفرحت وخشمي ده وصل لي هنا (مشيراً إلى منتصف خديه) ما خلاص بقيت لواء.. لكن زي ما عارف هجو سادي ويجب العذاب.. قبل ما أتم بسطتي قال لي بي صوتو البارد داك) ( لكن برضو في كشف تاني بتاع إحالة طلع واسمك فيه) و ( أنا بي هنا أول ما سمعت الكلام ده شلاليفي وقعت!) وضحكنا حتى ابتلت مآقينا من الحركة المسرحية، التي سخر بها اللواء محمد الطيب من نفسه.. وهنا قال الأخ اللواء إبراهيم علي أحمد (ود الطيب انطبقت عليه قولة الشاعر الهادي أحمد يوسف): سرى النبأ المشؤوم فاندكت المنى وعادت تهاني الوافدين تعازيا لامني البعض على تعذر الاتصال بي .. يمكن الاتصال بي على 0912151090