في عهد الرئيس جعفر محمّد النميري - رحمه الله - وفي أوج قوّة العلاقة مع الشقيقة مصر، طارت أغنية جميلة في الآفاق، وأصبحت على كل لسان وشفة، خاصة وأن التلقِّي الإعلامي كان محكوماً بأجهزة الإعلام المحليّة، في وقت لم يكن فيه للفضاء سطوة وقوّة وأثر. كان مطلع الأغنية يقول: من الخرطوم للقاهرة .. سلام وتحيّة معطرة وكان السفر بين البلديْن التوأم - ولا أقول الشقيقيْن - بدون تأشيرات أو حتى جوازات سفر، بل كانت الحركة من وإلي الشطر الثاني من الوادي تتم عن طريق ما عُرف وقتها ب (بطاقة وادي النيل) .. ولكنّنا اليوم - وللأسف الشديد - ننحدر إلى أدنى حدود التكامل - لا الوحدة - عندما نشدِّد على تأشيرات الدخول ونعرقل تطبيق الحريّات الأربع التي أقرّها البرلمان في كل من الخرطوموالقاهرة. أقول قولي هذا وقد عدتُ من مصر مساء أمس الأوّل بعد رحلة عمل قصيرة امتدّت لست وثلاثين ساعة فقط ضمن وفد الاتِّحاد العام للصحفيين السودانيين بقيادة الأستاذ الدكتور محي الدين تيتاوي، رئيس الاتِّحاد، الذي ضمّ كاتب هذه الزاوية بصفته نائباً للرئيس والأستاذ الفاتح السيِّد، الأمين العام للاتِّحاد، وذلك للمشاركة في اجتماعات الأمانة العامّة للاتِّحاد العام للصحفيين العرب، الذي انعقد في مقر الاتِّحاد بعمارة الهيئة العامة للاستعلامات في شارع طلعت حرب، وذلك يومي (11 - 12) نوفمبر الجاري. أقول قولي هذا ولي مشاهداتي وتلمُّسي لمشاعر المواطنين العاديين في شطري وادي النيل، وهي مشاعر مترعة بالحبِّ والثقة والإحساس بالأمان، الذي أستدلُّ عليه بوصول عدد رحلات الطيران بين الخرطوموالقاهرة إلى نحو خمس وعشرين رحلة في الأسبوع.. يحزنني جداً أن تصد سفارة السودان في مصر أو السفارة المصرية في الخرطوم أيّ شخص أو مجموعة تريد زيارة الشطر الثاني من الوادي بدعاوٍ غير منطقيّة في المفهوم أو الوجدان الشعبي، وأستدل على ذلك برفض منح التأشيرة لأكثر من عشرين طالباً وطالبة من جامعة وادي النيل - كليّة الهندسة في عطبرة - لا لسبب إلا لأنّهم لا يحملون جواز سفر، بل يحملون (وثيقة سفر جماعيّة).. تخيّل .. رحلة علميّة تقوم نتيجة اتِّفاق بيْن جامعتيْن لعدد من الطلاب لا يملكون قيمة جواز السفر ولا حتى نصفها أو ربعها ..! أوّل مرة أزور فيها القاهرة كانت رحلة علميّة نظّمتها لنا إدارة مدرسة أم درمان الأهليّة الثانويّة عام 1974م، لم نستخرج جواز سفر ولا سعينا لتأشيرة، فقد كفتنا الإدارة كل ذلك بوثيقة السفر الجماعيّة والتأشيرات الخاصة، رغم أنّنا كنّا لجنة مشرفة على تلك الرحلة .. فتأمّل هذا الذي يحدث .. ألا يحق لي أن أقول إنّنا ننحدر إلى أدنى حدود التكامل .. بل إلى القاع ..؟ لحظة وصولنا إلى مطار القاهرة أبلغني زملائي وأصدقائي هناك بأنّ سعادة السفير الفريق أوّل عبد الرحمن سر الختم يستضيف مساء ذلك اليوم - الثلاثاء - ندوةً عن العلاقات بين البلديْن على شرف زيارة مجموعة من الصحفيين الشباب إلى مصر .. فطرحت أمر المشاركة على رفيقي الرحلة، فرحّبا رغم إجهاد السفر الذي لابدّ منه حتى وإن كان على بساط الريح .. وكان الحضور كبيراً والمشاركة فاعلة والمداخلات ثريّة، كلُّها تحمل الحكومات المسؤوليّة لأنّها تقف في وجه الاندماج، والأسباب دائماً إمّا محاذير أمنيّة وإما إخضاع الأمر لمزيد من الدراسة .. ومصيبة الشعبيْن في شطري الوادي أن شيئاً إيجابياً لن يتم لصالحهما إذا لم تقرُّه السلطات. لذلك ندعو منظّمات المجتمع المدني من اتِّحادات ونقابات ومنظمات طوعيّة للضغط على الحكومتيْن حتى نعود لمرحلة (التكامل) الذي كان في عهد الرئيس نميري .. رحمه الله