ما اكثر ما يستحق الالتفات والانتباه للمشهد السياسي في شطري وادي النيل (السودان ومصر) ما صنعته ثورة الشعب المصري، 25 يناير التي اطاحت بنظام قوي قابض لثلاثين سنة، أعادت مصر الحضارة الى موقعها المتقدم في المنطقة وفتحت الثورة المصرية الفذة أبواب التفاؤل والتواصل والمصالح بين شعبي وادي النيل وأعادت الحلم التاريخي المتجدد (وحدة وادي النيل) والدفع به مرة أخرى للوجدان والعقل وربما الفعل النافذ. وبفضل هذه الثورة العملاقة تقاربت القاهرةوالخرطوم برغبة صادقة جادة وارادة موحدة لتحقيق الهدف المشترك لدعم الوشائج والمصالح لمواجهة المخاطر والمهددات التي تستهدف كليهما، وأظهرت حقائق الجغرافيا والتاريخ والمصالح والمتغيرات الجارية في المنطقة بوجه عام وفي شطري وادي النيل بوجه خاص، وان الخطر على مصر هو ذاته خطر على السودان، وان قضية الأمن لها الأولوية بلا جدال وان من مصلحة البلدين (السودان ومصر) احياء اتفاقية الدفاع المشترك التي وقعت بين القيادة العسكرية لجيشي البلدين وبمشاركة القانونيين العسكريين واستهدفت الدفاع عن حدود وادي النيل، وقد طلبت الخرطوم من القاهرة مطلع 1989م الغاءها استجابة لمطلب زعيم الحركة الشعبية العقيد جون قرنق كشرط لوقف الحرب في الجنوب. ان أجواء الخطر والمهددات المحدقة بشطري وادي النيل تتطلب بشكل فوري من القاهرةوالخرطوم احياء اتفاقية الدفاع المشترك للتصدي للمهددات، لا يكفي ابداً اطلاق التصريحات والأحاديث والبيانات لسقوط العوائق والحواجز والتحفظات بكافة محتوياتها بين شطري وادي النيل، لا بد من الفعل الايجابي والقرار النافذ، ولم تعد هذه التصريحات في الخرطوموالقاهرة تجدي فتيلاً وانما الفعل والعمل معاً هما اداة الاقتناع والقبول، مطلوب من القيادة السياسية والتنفيذية والعسكرية العليا في الخرطوموالقاهرة اخذ النموذج لصناعة القرار الذي كان ينفذ في حقبة السبعينات بين الرئيسين الراحلين جعفر نميري وأنور السادات لصالح شعبي وادي النيل. انظر الى نوعية القرار ونفاذه. قال الرئيس جعفر نميري (1969 - 1985م) في احدى زياراته للاسكندرية ان الرئيس انور السادات جاءه ونقله بطائرة عمودية حلقت فوق البحر واتجهت غرباً حيث الشاطئ الشمالي وكانت عيونه مركزة عبر النافذة المستديرة في الطائرة فجاءه طلب من الطيار ان يبدأ الهبوط في بطء وعندما وصلت الطائرة الى ارتفاع يسمح برؤية واضحة لمعالم المنطقة، قال السادات (هذه هي المنطقة التي اخترتها لتكون ميناء السودان الجديد وسأوفد وزير التعمير مع لجنة فنية لمعاينة المنطقة ومدى صلاحيتها لاقامة الميناء فاذا صلحت فهذا هو المطلوب، واذا لم يكن فنغيرها بموقع آخر واتوقع وصول بعثة فنية من السودان وبسرعة لمشاركة اخوتهم المصريين في معاينة الموقع وصلاحيته (لقد آن الأوان لأهلي في السودان ان يتحرروا من قبضة الميناء الواحد فليكن البحر الأبيض لنا ولهم)، وقد روى لي وزير خارجية السودان الأسبق محمد ميرغني ان الحكومة السودانية قررت وضع مشروع قناة جونقلي في اسبقيات التنفيذ في منتصف السبعينات لصالح الاستقرار والتنمية لمواطني المنطقة بالجنوب من جهة ولزيادة حصيلة المياه من جهة أخرى، وهو مشروع مائى ضخم اعدت فيه دراسات وافية ودقيقة ويوفر مياها تقدر بنحو اربعين مليار متر مكعب وتبلغ تكلفته آنذاك بنحو (74) مليون دولار وقررت الحكومتان آنذاك السودانية والمصرية تنفيذه من الموارد المشتركة، إلى جانب استقطاب قروض من الدول الصديقة . واوفد المشير جعفر نميري وزير الخارجية محمد ميرغني للقاهرة لينقل للرئيسي المصري ان الحكومة السودانية رصدت ما هو مطلوب لمرحلة التنفيذ وانه علم ان الحكومة المصرية لا تعطي هذا المشروع الأسبقية المطلوبة في الوقت الحاضر ولذلك يرجوه ان يأخذ الأمر في الاعتبار فوافق الرئيس السادات على الفور، وطلب من وزير الخارجية الانتظار حتى يحمل من رئيس الوزراء المصري الرسالة التي تنقل اليه الموافقة وايضاً ما رصد من أموال لمشروع جونقلي وقد كان. وللمفارقة فان زعيم الحركة الشعبية العقيد جون قرنق مثلما طالب بالغاء اتفاقية الدفاع المشترك بين الخرطوموالقاهرة مقابل وقف الحرب في الجنوب فان حربه المدمرة في الجنوب استهدفت مشروع جونقلي بوجه خاص واوقفت العمل فيه مما اضطر الشركة الفرنسية الى نقل آلياتها الضخمة من الجنوب وبالتالي توقف العمل الذي قطع شوطاً كبيراً في مسألة تحقيق التكامل بين شطري وادي النيل وتوقيع منهاج العمل السياسي والتكامل الاقتصادي والثقافي وترجمة طبيعة الوشائج الأخوية والعضوية بين الشعبين الى منهج علمي وواقع عملي ملموس، استناداً لذلك جاء قرارا الرئيسين النميري والسادات بقيام أجهزة التكامل (الأمانة العامة) ولجنة وزارية عليا ومجلس وزراء مشترك واجتماعات دورية في الخرطوموالقاهرة يشارك فيها الخبراء والمستشارون وتنفيذ مشاريع النقل البري والنهري وزيادة رحلات النقل الجوي وتخفيض اسعار السفر الجوي بين الخرطوموالقاهرة واستخدام بطاقة وادي النيل عوضاً عن جواز السفر لتسهيل وتيسير الانتقال وقيام برلمان وادي النيل وانعقاده مرة في الخرطوم ومرة في القاهرة ودعم التواصل بين الجامعات والشباب والطلاب والهيئات والنقابات والفئات باعتبار التواصل الشعبي يدعم ويؤمن الانتقال السلس والمثمر لتكامل شطري وادي النيل. قصدت ان اذكر الخرطومالقاهرة معاً كيف كان يصنع القرار في كليهما في الحقبة من 1974 إلى 1985م من بطاقة وادي النيل الى ميناء السودان الجديد في مياه وارض مصر الى مشروع جونقلي في الجنوب. ولذلك في هذه الأجواء المهددات والمخاطر فان القرار الصحيح والصائب يتطلب قيام اجهزة التكامل وبدون ابطاء ويمكن الاستفادة القصوى من المذكرات والملفات والدراسات والتوصيات التي كانت محفوظة لدى الأمانة العاملة للتكامل في مصر والسودان وبالنسبة للسودان فهي حسبما نقل لي مودعة لدى الأمانة العامة لمجلس الوزراء- اي - انه توجد مرجعية يعول عليها تماماً فيهما يحقق ما هو مطلوب. ان الارادة القوية والنافذة المشتركة مطلوبة بشدة والحاح.