عندما نرفع أكف الضراعة إلى السماء وتلهج ألسنتنا بالشكر والدعاء، فإننا كثيراً ما نسأل الله جل وعلا أن يهبنا الستر والعافية، وما الستر الذي نبغيه سوى الأمن الشخصي والعائلي والاجتماعي بلا مهانة أو ذل من أحد أيا كان، وتعمل الشرطة دائماً على تحقيق هذا الأمن بأركانه الثلاثة ببذل كل ما في وسعها ولا تألو جهداً ولا تدخر إمكانات بشرية أو مادية في سبيل ذلك، وها نحن نرى رأي العين الخطوات الجادة التي تتخذها الشرطة نحو توفير أسباب الشق الثاني وهو العافية، فشعار الشرطة الذي يزين هامات منسوبيها يشتمل على العين الساهرة واليد الأمينة وغصن الزيتون رمز السلام والاطمئنان، وقد أضيف له عام 1980 شجرة النخيل رمز الغذاء الصحي والثعبان الذي يلتف حولها رمزاً للمرض والترياق المضاد والعلاج، ليصبح ذلك شعاراً لمستشفى الشرطة التي تعمل على تحقيق الأمن الصحي للشرطي والمواطن على حد سواء، ولقد كان لي فضل تصميم ذلك الشعار إلى جانب شعار طيران الشرطة وشعار شرطة الاحتياطي المركزي، الذي صممته بالاشتراك مع أخي الملازم وقتها أحمد الزبير جاه الله وهذا للتاريخ لا غير. بدأت نواة مستشفى الشرطة في الركن الجنوبي الغربي من كلية الشرطة أو عنابر «كاتنقا» كما اشتهرت في أوساط طلاب كلية الشرطة في السابق، وكانت فكرتها قد تكونت بتوصية من أحد مؤتمرات الشرطة التي رأت ضرورة رفع المعاناة عن كاهل الشرطي في مجال العلاج، ومنحه نوعاً من الضمان الصحي ليكون أكثر قدرة ورغبة في أداء أعماله المختلفة خدمة للوطن والمواطن وتحقيقاً لأمن واستقرار المجتمع والدولة، ولقد دارت الاجتماعات على مستوى قيادات الشرطة ومسؤولي وزارة الصحة ووزارة التشييد والأشغال العامة وذلك لوضع الخطوط البارزة للمشروع؛ من حيث اختيار مديره وتحديد المكان والمباني والآلات والمهمات، ووضعت الفكرة في رحم التنفيذ باختيار الطبيب البارع والإداري الناجع د. عبد المنعم خضر النميري من قبل السيد الدكتور الانسان شاكر موسى وكيل وزارة الصحة حينذاك، والذي كان يمثل رأس الرمح في المشروع فما وجد ذلك الرجل عوناً إلا وقدمه ولا تسهيلا الا وأجراه بكل ما لديه من جهد إداري وفني وفكري، وهو رجل ستذكره الشرطة ومستشفاها على الأخص دوماً بالثناء والعرفان، وكان أن أصدر الفريق عبد الله حسن سالم فرمانا بتشكيل لجنة تسيير مشروع المستشفى؛ برئاسة المرحوم العميد عمر ساوي من المعامل الجنائية والمقدم محمد نور من الشؤون المالية والدكتور عبد المنعم خضر النميري مدير المستشفى والنقيب شرطة طيار عثمان حسين داؤود مساعداً إدارياً له، وتقلد د. عبد المنعم إدارة المشروع وتحت حزامه بكالريوس الطب والجراحة من قصر العيني- القاهرة، وخبرة ميدانية طبية امتدت خلال سبع سنوات كان نتاجها إعادة تنشيط مستشفى بانتيو وإحيائه من جديد، وإنشاء 13 شفخانة ونقاط غيار بمنطقة غرب النوير على مدى ثلاث سنوات، ثم تأسيسه لكل من مستشفى إبراهيم مالك ومستشفى الصحافة غرب إلى أن تم تعيينه مديراً لمستشفى الشرطة برتبة المقدم شرطة طبيب، وتمت ترقيته ترقية مستحقة إلى رتبة العقيد.. قمت خلال الأيام القليلة الماضية بزيارة لمستشفى الشرطة لغرض خاص لدى الطبيب الوسيم البارع اللواء د. محمد الحسن الصافي مدير المستشفى، ولقد هيجت تلكم الزيارة لواعج ذكريات محفورة في مؤخرة الذهن بأحرف من نور وهي ذكريات بدايات تأسيس هذا الصرح العملاق، وتذكرت الطبيب الرائع عبد المنعم خضر النميري أول من وضع اللبنات الأولى لذلك المشروع الطموح، فالدكتور عبد المنعم رجل لا يستحق أن يسقط في داخل شقوق ذاكرة الشرطة فتنساه لا سيما أن لعبد المنعم ديناً مستحقاً على شرطتنا الحبيبة، ولعل أقل ما نقوم به لرد ولو جزء من ذلك الدين أن نذكر صاحبه بالخير لما قدمه للشرطة وللمواطن والوطن من عمل جميل يستمتع الناس بثماره إلى يومنا هذا.. وإبان عملي مع د. عبد المنعم خبرت ولمست فيه من حميد الخصال ما يعجز قلمي الصغير عن تصويره، فهو قامة تقصر دونها الكلمات ولا تصورها أو تكيفها العبارات مهما تلألأت وتلامعت، فقد كان د. عبد المنعم طبيبا متميزاً وإدارياً فذاً وقائداً نادر المثال، كان ذا كاريزما آسرة وكان منضبطاً أميناً متفانياً في أدء واجبه المقدس، وكان ذا بصيرة نافذة ونظرة ثاقبة وهو يخطط في براعة لمستقبل زاهر لمشروع رعاه كابنه تماماً. ولقد تجلت شخصيته القيادية في رفضه لتعيين طبيب كان ذا صلة قربى مع واحد من قيادات الشرطة لأن سلوك ذلك الطبيب لم يكن محموداً وسط أقرانه، كما تجلى اهتمامه بالانضباط عندما قام بفصل إحدى العاملات لأنها كانت تمازح وتضاحك أحد الضباط، الأمر الذي عده خروجاً على قواعد المهنية والاحترافية التي لا مجال فيها للعلاقات الخاصة التي ربما تسيء لسمعة المستشفى، وكنت شاهداً على همته ومثابرته وهو يلاحق إدارة الإمدادات الطبية بشأن توفير الأدوية لمستشفاه. كان وقته مقسماً بين نهاره في المستشفى وليله في عمله بعيادته بالكلاكلة فلم يكن لديه وقت فراغ للهو أو التبطل، كان عفيفاً وكان جميلاً في كل شيء، ولكن وبما أن لكل نجاح أعداء ولكل جميلٍ من يسعى لإشانته حسداً أو غيرة أو ربما لتحقيق مآرب أخرى، فقد قامت جهة مجهولة لدي إلى يومنا هذا بكتابة تقرير طعن في نزاهة ومصداقية د. عبد المنعم ورمته بما ليس فيه زوراً وبهتاناً، وكنت وقتها قد تركت العمل بالمشروع بعدما استوى عوده ولقد ساءني الأمر لما علمت بأن عبد المنعم قد أوقف عن العمل، وأن هناك محققاً يحقق في ما ورد بالتقرير، وبما أنني كنت «شاهد شاف كل حاجة» عن د. عبد المنعم فقد ذهبت للمرحوم علي يس مفتش عام الشرطة وقتها في منزله، وناقشته في الأمر ناقداً ومعترضاً على نهج رئاسة الشرطة في الانسياق وراء ذلك التقرير الملغوم، وقدمت له تقريراً وافياً على الشخصية الفعلية لدكتور عبد المنعم الذي خبرته عن قرب لأكثر من ثلاثة أعوام بما يدحض تلكم الاتهامات الجائرة، وقلت له بالحرف: «إن ذاك جحود من رئاسة الشرطة في حق د. عبد المنعم وإنه يستحق أن يكافأ على ما قام به لا أن يكون جزاؤه جزاء سنمار»، ويبدو أن المرحوم علي يس قد حار في أمره فسكت عنه إلى أن أصبح وزيراً للشؤون الداخلية واستمر الحال على ما هو عليه.. د. عبد المنعم موقوف عن العمل ولا بينة ظاهرة قد وضحت لتقديمه لمجلس محاسبة، وذلك إلى أن تولى الفريق فيصل خليل قيادة الشرطة خلفاً لعباس مدني، فذهبت إليه أيضاً وحدثته في أمر د. عبد المنعم من جديد بغية إنهاء ذلك الوضع الشاذ، ولقد رأى المرحوم فيصل أن الوقت الملائم لإعادة د. عبد المنعم للعمل قد مضى وربما تشكل إعادته في ذلك الوقت تهديداً لاستقرار وإدارة المستشفى، كما أنه لن يكون قادراً على اجتياز الحاجز النفسي الذي علا خلال فترة الإيقاف لأكثر من عام ونيف، لذا اتخذ قراره بإحالته للمعاش منهياً بذلك مسيرة رجل ترك بصمة واضحة لا لبس فيها في تاريخ الشرطة، فلولا د. عبد المنعم خضر النميري بتوفيق من الله ما كان مستشفى الشرطة وما كان ساهرون، ولا كانت كل مستشفيات الشرطة الأخرى التي أنشئت في الأقاليم. وختاماً فإني أحيي الدكتور عبد المنعم خضر النميري الذي لم أره لأكثر من عشرين عاماً.. أحييه أين كان وكيف كان وأشكره إنابة عن الشرطة وعن كل رجل وكل امرأة وكل طفل خدمه مستشفى الشرطة، ولن تنساك الشرطة حبيبنا عبد المنعم.