فوجئت، وقطعاً فوجئ كثير من المشاهدين غيري، من أولئك المتابعين لفعاليات الحملة الانتخابية الليلة قبل الماضية «الثلاثاء» بلغة جديدة ونقلة غير مسبوقة في الدعاية السياسية لمرشحي الرئاسة. لفتة حملها فيلم وثائقي أعده الطاقم الإعلامي المعاون للإمام الصادق المهدي زعيم حزب الأمة، كسرت نمط المقابلات الرتيبة المعتادة التي كان ينظمها التلفزيون القومي لمرشحي الرئاسة خلال العشرين دقيقة المقررة من الآلية الإعلامية التي شكلتها المفوضية القومية للانتخابات لتوزيع الفرص بين المرشحين بحضور عشرين شخصاً يختارهم المرشح الرئاسي للاستماع إلى حديثه، فيجلسون صامتين محدقين طوال تلك العشرين دقيقة، التي تتخللها أسئلة باردة وغير ضرورية أحياناً يتفضل بها أحد المذيعين الذي يكون واقفاً على منصة عمودية في إحدى زوايا الأستديو. وكان الإمام قد دعاني - مشكوراً- لحضور تسجيل الفقرة الأولى من حملته في دقائق التلفزيون المعدودة، والتي جرت على ذلك النمط التقليدي، والتي انقطع التيار الكهربائي خلالها مما أضطر الطاقم الفني للتلفزيون إلى الطلب من المهدي العودة إلى المقطع الذي انقطع فيه التسجيل حتى يتمكنوا من حل المشكلة بواسطة المونتاج قبل بث الحديث، وربما كان ذلك ما دفع الإمام وطاقمه الإعلامي إلى التفكير في أسلوب جديد يكون أكثر نجاعة يكسر الرتابة وما يصحبها من ملل جراء العرض أو العزف المنفرد (the one man show)ويستفيد من الزمن القصير المحدود بأكبر درجة ممكنة بتوظيف كل دقيقة وثانية من تلك الدقائق العشرين. لجأ الطاقم الإعلامي لحزب الأمة لاسترجاع التاريخ السياسي للصادق المهدي - PLAYBACK- كحاكم ديمقراطي مستخدماً مؤثرات الصورة والموسيقى والشعر ومستغلاً لقطات تسجيلية عاد بها إلى فترات حكم الصادق السابقة، في الديمقراطية الثانية بعد ثورة أكتوبر التي حكم فيها لتسعة شهور، وفي الديمقراطية الثالثة ومشاهد من أدائه القسم أمام البرلمان كرئيس وزراء منتخب، وأبرز بشكل لافت المواقف الإيجابية. والمنهج القومي المتعالي على الحزبية في تلك الحكومات الائتلافية التي قادها، وما تحقق من إنجازات في تلك الفترات القصيرة والمنقطعة، مثلما أبرز دور الانقلابات العسكرية في قطع الطريق على التطور الديمقراطي، وفشل تلك الانقلابات في إنجاز شعارات الوحدة الوطنية والرخاء والرفاهية التي وعدت بها الشعب، وتخلل كل تلك المشاهد فقرات حية يتحدث فيها المهدي من أمام خلفية مصورة لقبة الإمام الأكبر محمد أحمد المهدي وبيت الخليفة عبد الله. فتحدث الصادق بصراحة صادقة عن فضائل الديمقراطية التي قاد بعض مراحلها ، وما تعرضت له الديمقراطية الثالثة خصوصاً من تآمر داخلي وخارجي. داخلياً من الذين كانوا يجلسون معهم في البرلمان نهاراً ويأتمرون ويخططون بالليل للقضاء على الديمقراطية والانقلاب عليها، وخارجياً من الولاياتالمتحدة التي لم تكن راضية عن النهج الاستقلالي الذي اتبعه النظام الديمقراطي الجديد وكيف كانت آسفة لزوال نظام نميري الذي كان يتعاون معها «استخبارياً ولوجستياً» في سنواته الأخيرة لترحيل الفلاشا عبر السودان إلى إسرائيل ويقدم لها التسهيلات في البحر الأحمر. مثلما دخل في مقارنة بين الحياة في ظل الديمقراطية وما آلت إليه الأمور بعد انقلاب «الإنقاذ» وعلاقة الدولة بالمواطن في الحالتين، من حيث الحريات وحقوق الإنسان ومن حيث الرعاية التي كانت تقدمها الدولة الديمقراطية للشعب بدعم الخبز والوقود وبعض ضروريات الحياة الأخرى بالإضافة إلى الصحة والتعليم المجاني برغم استلامهم الحكم بعد فترة شمولية عانت فيها البلاد من الفقر والجفاف والاضطراب والحروبات، فذهبوا في طريق السلام حتى كادت البلاد أن تبلغ مأمنها لولا انقلاب «الإنقاذ». كانت فقرة للدعاية السياسية الذكية، نجحت في شد المشاهد إلى الشاشة البلورية طوال العشرين دقيقة عبر التكثيف الدرامي والربط المحكم بين الماضي والحاضر. والتلفزيون القومي يستحق تهنئة، لأنها تأتي بعد صدمة من رصيفته الإذاعة القومية التي تأبت وتمنعت عن بث خطاب انتخابي للسيد الصادق وأصرت على «سنسرته» وحذف ما رأى مسؤولوها إنه حضٌ «على الكراهية» بسبب وقائع معلومة وموثقة أوردها الخطاب، ما اضطر الإمام وطاقمه المعاون إلى سحبه وإلغائه احتجاجاً. لكن صدر التلفزيون اتسع - ما شاء الله- لخطاب أقوى وأشد تأثيراً تدعمه مؤثرات الصوت والصورة ، فهنيئاً له، ونرجو أن تكون تلك مقدمة لمزيد من الانفتاح والإبداع فيما تبقى من عمر الحملة الانتخابية.