المبادرة التي أطلقها رئيس حزب التحالف الوطني الشاب، والسياسي الأديب، أمير بابكر عبد الله يجب أن لا تمر بدون توقف وتأمل وطرق على العقول والقلوب.. ينبغي أن لا يطويها النسيان كما يفعل مع آلاف المقالات وأعمدة الرأي التي يطالعها الناس ويرمون صحائفها من باب «العلم بالشيء ولا الجهل به».. فقد يسر لنا أمير بمقاله المخدوم في شأن «المبادرة الشعبية لتعزيز الوحدة»- (الأحداث) الثلاثاء 9 مارس 2010- ذكر هذه المبادرة الضرورية والحاسمة فهل من مدَّكر! المبادرة الشعبية لتعزيز وحدة الوطن هي بعض إيحاءات مؤتمر جوبا لكل الأحزاب الذي انعقد في سبتمبر الماضي بدعوة من الحركة الشعبية، وكانت قضية الوحدة هي الهم الرئيسي والمقيم في خاطر فعاليات المؤتمر، برغم أن المؤتمر ك(مؤتمر) لم يتخذ قراراً واضحاً أو حاسماً بإزائها، وكانت موضوع مناقشات متعددة على الهامش بين ضيوف المؤتمر، فلم تكن تخلو جلسة تجمع ثلة من المؤتمرين إلا كانت قضية الوحدة حاضرة، وكانت جمعتني واحدة من تلك الجلسات مع الأستاذ أمير وبعض إطارات حزبه، وتطرق الحوار كالعادة إلى الموضوع الأهم الذي يؤرق الجميع «الوحدة أم التجزئة والتشطير». فالوقائع الحياتية المعاشة لأجواء مؤتمر جوبا والكيفية التي أدارت بها الحركة الشعبية ذلك المؤتمر، والتمازج والكرم ولين العريكة الذي تحلى به المضيفون من أبناء الجنوب بمختلف مواقعهم في الحركة وخارجها على المستوى الشعبي و«الناس العاديين»، كانت جميعها توحي وتؤشر إلى أن ما يجمع أهل السودان، على تنوع سحناتهم وتعدد مذاهبهم الثقافية هو أكبر مما يفرقهم، وأن جذور الوحدة ضاربة في عمق العلاقات الشعبية، تنتظر مبادرة مخلصة لإروائها حتى تنبت وتستوي على سوقها وتزهر وتثمر عنباً أبا ورطباً جنياً. أوضح أمير في مطلع مقاله ضيق الوقت المتبقي على موعد الاستفتاء على تقرير المصير للجنوب، بما «لا يتسع للمؤسسات الرسمية ولا أروقة ودهاليز السلطة بتعقيداتها والتواءاتها» لإنجاز استحقاقات «الوحدة الجاذبة»، وهذا هو محرك دعوته وإطلاقه ل«المبادرة الشعبية لتعزيز الوحدة»، بعد تحرير قضية «الوحدة والانفصال» من احتكار المؤسسات الرسمية وصالونات النخب السياسية المغلقة، وإعادتها لبعدها الشعبي، باعتبار الشعب هو الفيصل وهو الذي يبدي ويعيد في أمر الوحدة والانفصال. وأسس أمير لدعوته بإيراد الأبعاد التاريخية لعلاقات الإقليمين الشمالي والجنوبي، ودور الاستعمار غير المنكور في التمايز بين أبناء الشعب في الإقليمين، حتى خرج الاستعمار وترك أرضاً ملغومة في الجنوب فتفجرت الحرب متزامنة مع أزوف رحيله «1955»، وجاءت الحكومات الوطنية وإجراءاتها لتعزز حالة فقدان الثقة في الطرف الشمالي، وظل «الحبل على الجرار» هكذا عبر كل المراحل، إذا ما استثنينا فاصلة قصيرة بعمر الشعوب هي سنوات اتفاقية أديس أبابا 1972-1983. لتعود بعدها معاول الحرب تحرث وتنخر أرض الجنوب وتدمر الإنسان والزرع والضرع، حتى كانت بآخره نيفاشا (2005) التي وضعت- كما أبان أمير - البلاد على «مفترق طرق بدلاً من أن تعزز موقف وحدة السودن (الجاذبة) وفقاً لنصوص الاتفاقية نفسها» فظلت الوحدة حبيسة أضابير وقائع الاجتماعات الرسمية لقيادات السلطة الحاكمة.. دون أن «تنطلق إلى رحاب الهواء الطلق لتدعمها جموع الشعب المنطلق إلى الاستقرار والسلام والوحدة» أو كما قال. أمير يدعو بدعوة حق أريد بها خير الوطن، إلى وقفة جادة من السودانيين بجميع فئاتهم وقطاعاتهم لتجاوز العجز الرسمي تجاه الوحدة ولمواجهة «الوضع المتأزم» الماثل، استناداً إلى الإرث التاريخي للشعب الممتد، إلى «رؤى الوحدة في التنوع» باعتباره مصدر الهام روحي وثراء فكري كفيل بأن ينهض بالوطن. لم «يجدع» أمير حبل المبادرة الشعبية على ظهر مهر طليق يركض أنى شاء له مزاجه، بل أحكم نسيج أبعادها وأهدافها وآلياتها وتوقيتها. فأبعادها وأهدافها تتمثل في دعم وتعزيز عوامل الوحدة الاجتماعية وعناصرها؛ بجهد مستوعب ومسؤول لعمق الاختلالات التي أفرزتها وغذتها الحروب التي ضربت أقاليم البلاد المختلفة و«لا زالت آثارها تشوه الأمكنة والدواخل». وإبراز التعدد والتنوع الذي يتميز به السودان وإدارة هذا الواقع بطريقة تتفوق على النصوص الدستورية والقانونية الباردة. وإزالة الشوائب والتشوهات التي علقت بواقع التعدد والتنوع الطبيعي هذا، عبر التواصل المستمر والخلاق، وإزالة الآثار النفسية والاجتماعية للحروب وخلق مناخ تنموي صالح لتجاوز ظلامات الماضي. وإرغام المؤسسات الرسمية-عبر الحراك الشعبي- على إقامة دولة مؤسسات قادرة على إدارة الدولة على أساس المواطنة والحقوق الطبيعية والدستورية التي تستحقها أشراط المواطنة. أما الآليات الكفيلة بإنجاز المبادرة الشعبية من أجل الوحدة، فيحددها أمير في الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، والمؤسسات الإعلامية والصحفية، والشركات الخاصة ورجال الأعمال، والجماعات الثقافية والفرق المسرحية والغنائية والرياضية، والمؤسسات الأهلية ومؤسسات التعليم العالي والجاليات السودانية في المهجر، وهو يدعوهم جميعاً للنهوض بهذا الواجب الذي يتقدم على كل واجب آخر والمتمثل في تبني المبادرة الشعبية لتعزيز وحدة الوطن. ويقترح في النهاية شهر «يوليو» المقبل موعداً لإطلاق المبادرة، وأن تستمر حتى موعد الاستفتاء على تقرير المصير لجنوب السودان، أي لمدة ستة شهور متواصلة، لعل الله يجعل منها «مخرج صدق» للسودان.. وهو على كل شيء قدير.