في خضم مشروع تحطيم السودان وتفتيته فيما يسمى ب(الاستفتاء على انفصال الجنوب) واقتراب الموعد المضروب لذلك المشروع الخطير (مطلع عام 2011)، يحق لنا أن نتوجع: ماذا يحدث في السودان؟ وأي مصيبة تتهدد هذا البلد العربي الكبير؟ وهل نسينا مشروع (الشرق الأوسط الكبير) والمشاريع المشابهة ذات النزعة التفتيتية لعالمنا العربي على أسس دينية وطائفية التي ُيراد لها أن تلامس الكثير من دولنا العربية لتظفر الدول المهيمنة على عالم عربي (هادئ) و(مهذب) و(منتج) داخل إمبراطورية العولمة في سياقات دولية ستشهد تغيرات كبيرة على خارطة الطاقة، والتسلح، والنفوذ لقوى مناهضة لعالمنا العربي والإسلامي؟؟ وقد نقلت لنا الأخبار أن (الجنوب السوداني) قد أبرم اتفاقيات لشراء طائرات عسكرية وذلك قبل الاستفتاء في إشارة لها دلالتها الواضحة، في وقت تؤكد فيه (هيلاري كلينتون) على أن الانفصال أمر (حتمي)، ولسنا نعرف كيف أمكنها قراءة المستقبل بهذا القدر من الجزم والقطع، واصفة الانفصال بأنه (قنبلة موقوتة)!! هذه الأوضاع تؤكد على أننا لا نمتلك سوى ذاكرة قصيرة الأجل، تحتفظ بالمعلومة الخطيرة أو الحدث الخطير لوقت قصير جداً، ثم تتلاشى وتهمش في ملاحقة غير حكيمة لما نعتقد أنه (الأحدث) في عالم المعلومات والأحداث التي تعج بها أيامنا وليالينا. مذهل ومخز في الوقت ذاته أن أمراً خطيراً كهذا يمر علينا دون أن نتناقش حوله، أو نمنحه جزءاً مستحقاً من وقتنا أو حيزاً كافياً في تفكيرنا. بالفعل لا أدري ماذا أصابنا؟ ألم يعد السودان قطراً عربياً؟ ألا يشكل جزءاً مهماً من نسيجنا العربي؟ أليس ثمة مخاطر ومخاطر كبيرة على أمننا القومي من جراء مشروع تفتيت السودان؟ بكل صراحة أقول بأن التاريخ لن يرحم كل من ساند ذلك المشروع الحقير بأي شكل من الأشكال أو حتى من تغاضى عن تعريته ومقاومته ورفضه، وإنني أصطف بأدواتي الضعيفة وصوتي المتهالك مع الشرفاء الرافضين لمشاريع التجزئة والتشطير لعالمنا العربي، وليعلم الجميع أن سكوتنا عن تقسيم السودان هو إقرار لمبدأ التقسيم والتفتيت لعدد كبير من دولنا العربية في أوقات لاحقة، فهل ندافع عن أنفسنا بدفاعنا عن إخواننا؟ فثمة من سيطالب بإجراء استفتاء في بلاد عربية أخرى بناءً على أسس دينية وطائفية فيما بعد؟ وسنفقد حينها (جذوة التكتل) و(سخونة الوحدة) و(شرف الكلمة) وسيخالطنا شعورا قاتلا... إنه شعور العار بالتفريط في ممتلكاتنا وسيادتنا وكرامتنا وحقوقنا. الأداء العربي الرسمي ضعيف للغاية، والأكثر مرارة أن أداء الشعوب العربية بات أكثر ضعفاً، وقد نتج ذلك من تغييب أجواء الحرية في عالمنا العربي، ما جعل تلك الشعوب تستسلم وتدرك بأنه لا حول لها ولا قوة، وهذا مؤشر خطير، وسيكلف دولنا كثيراً، فالتاريخ يفيد أن تحركات الشعوب وضغوطهم تفلح في حماية دولها من مخاطر وتهديدات عديدة، لا سيما إن كانت الحكومات مجبرة على الظهور بشكل معين أمام بعض القوى في سياقات تاريخية معينة، وهذا ما يجعلنا نؤمن بأن الحرية من عوامل الحفاظ على الأمن الوطني والقومي. نحن بأمس الحاجة لتأسيس ميثاق عربي يتمحور حول رفض التدخلات الأجنبية في أقطارنا العربية بأي شكل كان، فالتدخل الأجنبي مرفوض وغير مبرر مهما كانت الظروف والملابسات التي تعيشها تلك الأقطار، فنحن نتحدث عن قضية مبدأ مشروعية التعاطي مع الشأن العربي والتدخل في شئونه الداخلية من قبل القوى والمؤسسات الأجنبية، خاصة أن بعض المثقفين العرب ينشطون في تعبئة العقل العربي وإقناعه بصحة أو حتمية نظرية (الاستقواء بالخارج)، مؤكدين على شرعية التدخل الأجنبي في الشئون العربية حتى لو كان ذلك عسكرياً كما هو في العراق والصومال، الأمر الذي يؤذن بحدوث فوضى خلّاقة أو غير خلاّقة في محيطنا العربي ... فهل يعقل أن نشهد هذا اليوم تنادياً على تدخل بعض القوى الأجنبية في هذا البلد العربي وغدا في بلد عربي آخر لأن فئة من المثقفين العرب رأوا أن ذلك سائغ من أجل تحقيق مشاريع الإصلاح العربية المعطلة!! أعتقد أنه يتوجب علينا جميعاً مساندة السودان في منع إجراء الاستفتاء على التقسيم لعدم مشروعيته من حيث الأصل، فالجنوب السوداني جزء لا يتجزأ من أرض السودان، والسودان كله قطر عربي لا يسعنا التفريط بشبر واحد منه، أما الأخطاء السودانية – وكلنا خطّأ – في التعامل مع بعض الملفات السودانية الداخلية والخارجية فتقيم وتعالج ضمن الإطار السوداني والعربي. وهنا أتساءل: هل حديثي هذا يخرج عن المبادئ الوحدوية التي آمنا بها إزاء عالمنا العربي والإسلامي؟ منع أو إعاقة مشروع إجراء الاستفتاء هو مطلب إستراتيجي حتمي، وذاك شأن يجب أن تشتغل عليه الحكومات العربية بجد، وأن تضع ما يكفي من مواردها لإعاقة ذلك المشروع، ولكي نكون صرحاء نبادر بالقول إن على من يمد يد العون أو الصداقة للجنوبيين في هذا الوقت الحرج أن يتوقف عن هذا الصنيع المشين، فالمبدأ فوق كل اعتبار والشرف فوق كل مصلحة، كما أن المصالح الإستراتيجية لأولئك لا تتحقق إلا بوحدة السودان والحفاظ على سيادته على كامل أراضيه. كما أن على الحقوقيين العرب تقديم العون الاستشاري للحكومة السودانية في مختلف المحافل، بالإضافة إلى دعم مؤسسات المجتمع المدني ومؤازرتها بالإضافة إلى جهود المثقفين ونضالية الشعوب بمختلف أطيافهم، فالقضية خطيرة، ويجب أن نمنع حدوث ذلك السيناريو المشئوم، الذي سيجرنا في حال تحققه إلى سيناريوهات مشابهة، والقنوات الإعلامية العربية مطالبة بحقن الوعي العربي بكل ما يضاد مشاريع التقسيم والتجزئة، لا أن يكون بعضها عوناً عليها، كما أنه من غير المقبول التجاهل أو التهميش لهذا الخطر الداهم. نعم نرفض التقسيم للسودان والاستفتاء على انفصال الجنوب لعدم مشروعيته، ونضع أيدينا مع الفكر النهضوي والعمل الوحدوي على كافة المستويات، ونعلن براءتنا من اقتفاء مسالك التشتت والفرقة، مع التشديد على أهمية قيام الأنظمة العربية بدورها التاريخي ولتفسح المجال لمؤسسات المجتمع وللمثقفين وللشعوب أن يقوموا بدورهم التاريخي أيضاً في مقاومة مشاريع الاستعمار الجديد والتفتيت والتجزئة بأي شكل كان؛ باستخدام مختلف الأساليب المشروعة للحفاظ على الوحدة والسيادة. أوقفوا هذا السيناريو المشئوم بشرف التكتل وقيم الوحدة ونبل الاصطفاف مع الحق العربي، وإلا ف(الدومينو) ستنطلق من جنوب السودان إلى (أجزاء) عربية عديدة، وحينها لا لوم على أحد سوانا... اسمعوا منا هذه المرة! د. عبدالله البريدي كاتب وأكاديمي سعودي المصدر: شبكة الشاهد قبل الغرق في السودان اليوم سباق محموم مع الزمن ومحاولات متعددة لإيقاف عجلته قبل وصولها محطتها الأخيرة في التاسع من يناير القادم. وللأسف فإن محاولة السباق هذه وكل المبادرات والتدخلات والمساعي الجادة أحياناً لتأجيل عملية الاستفتاء حول مصير الجنوب، وحدة أو انفصالاً عن السودان، تدور وتحاول الالتفاف حول أمر قبله الجميع يوم أن وقعت حكومة "حزب المؤتمر الوطني" و"الحركة الشعبية" اتفاقاً اعترفت فيه الحكومة للجنوبيين بحق تقرير المصير، واعترفت واقعياً بأن "الحركة الشعبية" هي ممثل شعب الجنوب، وسلمتها مفتاح السلطة الفعلية هناك. والحق أن السودانيين جميعاً فرحوا وابتهجوا وأيدوا اتفاق السلام وإيقاف الحرب في الجنوب، لأنهم أصلاً كانوا ضد الحرب الأهلية القاسية التي كبدتهم من أرواحهم وأموالهم وأمنهم واستقرار بلادهم ما يعرفه العالم كله. ووضع أكثر الناس آمالهم وأحلامهم المرتجاة لبلدهم في مقْدم "السودان الجديد" الذي بشر به وقاتل من أجله جون قرنق، مؤسس "الحركة الشعبية" و"الجيش الشعبي لتحرير السودان". ولأن مشروع قرنق للسودان الجديد كان من أجل كل السودانيين المهمشين والبؤساء الذين تفتك بهم الأوبئة والمجاعات أكثر من الحرب، ولأنهم لمسوا وأحسوا بقلوبهم وعقولهم الصدق والولاء للوطن الواحد والإيمان بالمستقبل الواعد للسودان الجديد... فقد وضعوا ثقتهم في قيادة الجنوب لاستعادة وحدة الوطن التي تحقق لكل أطرافه من شعوب وقبائل وأقاليم، آمالهم وتعيد لهم حقوقهم الشرعية في اختيار حكامهم وإدارة شؤون حياتهم وفقاً لمعتقداتهم الموروثة وتحقق العدل في اقتسام الثروة والسلطة والتنمية العادلة للجميع. ويبدو مثل هذا الحديث الآن، كأنما هو حلم مضى، إذ أفاق أولئك من نومهم ليواجهوا بواقع شديد الوطأة تبددت أمامه كل الأحلام والآمال في الوحدة الجاذبة التي تعيد لحمة الوطن الواحد. فالواقع المرير يشير إلى أن السودان اليوم متجه نحو التجزئة والانفصال. ورغم التطمينات الصادرة من "مؤسسة الرئاسة" بأن الاستفتاء سيجري في جو من الأمن والأمان، وبأن طرفي اتفاق نيفاشا أكدا التزامهما بإزالة أي معوقات أو إشكاليات تهدد الأمن والاستقرار... فإن الشعور العام السائد بين أوساط المواطنين العاديين يطبعه الخوف والتشاؤم من أن العناصر غير المنضبطة في كلا الجانبين قد تشعل نار الفتنة التي لن يستطيع أحد إيقافها. وفي خضم هذه الأجواء تداعى نفر من أبناء وبنات السودان الحادبين عليه وعلى مستقبل العيش المشترك بين شماله وجنوبه، وأجمعوا على القيام بمبادرة بعيدة عن الخلافات والصراعات الحزبية والعشائرية والعقائدية التي تمزق الوطن... مبادرة من أجل السودان صادرة عن ضمائر وعقول سودانية تدرك المخاطر التي ستلحق بالسودان إذا تجزأ والجنوب إن انفصل. وقد تقدم هذا التجمع برسالة إلى شريكي الحكم (المؤتمر الوطني والحركة الشعبية) حملت اقتراحاً عملياً، لو قبله طرفا الحكم وتحقق، لوفر على الوطن والشعب كثيراً مما لم يعد في طاقته تحمله. تقترح المبادرة أن يتفق طرفا الحكم اتفاقاً موثقاً وقبل إجراء الاستفتاء، ويعلنوا للشعب والعالم أجمع، وفي حالة قرر الجنوب الانفصال، التزام كل من حكومتي الشمال والجنوب دستورياً بحق كل مواطن من مواطني البلدين في الحصول على الجنسية المزدوجة لدولتي السودان والجنوب، وأن تُضمن لمواطني البلدين الحريات الخمس. والهدف الذي أوضحه أصحاب الرسالة أن لا يكون الانفصال (لو قُدّر له أن يقع) سبباً في تمزيق الروابط الإنسانية والاجتماعية التي بنيت على مدى عقود طويلة بين الجنوبيين والشماليين. ليكن الانفصال (إذا وقع) سلساً ومحترماً وإنسانياً، ولربما بمرور الزمن وتجريب السودانيين للتجزئة والانقسام، قد يعودون لرشدهم وعقولهم ليعود العمل من أجل السودان الجديد الكبير وقد صهرت التجربة المرة عقول وقلوب أهله. لن نستطيع الآن إعادة الماضي بمآسيه، وربما إنجازاته أيضاً، لكن من الممكن -وبالعمل الجاد والصادق- تحقيق حسن الجوار ومد جسور الاتصال البشري والمصالح المشتركة. لذلك فقد طالبت المبادرة، بكثير من التأييد والأمل، أن يجد "صوت العقل" هذا قبولاً لدى قادة "المؤتمر الوطني" و"الحركة الشعبية". ولعل هذه المبادرة تكون طوق النجاة الأخير الذي يؤمّن السودان من مخاطر لا يدرك مداها سوى الله. عبدالله عبيد حسن