إن إعلان مواعيد الانتخابات لم يأت بغتة على حين غرة، ولم يفاجئ أحداً، والشعب السوداني كله كان يعلم منذ خمسة أعوام أن الانتخابات العامة ستقام وتعلن نتائجها في النصف الأول من عام 2010م كحد أقصى، وهذا ما تم الاجماع عليه في اتفاقية نيفاشا التي تم التوقيع عليها على مرأى ومسمع من كل الدنيا في عام 2005م، وبكل تأكيد أن الظروف التي تقام فيها هذه الانتخابات التعددية تختلف عن الظروف التي أقيمت فيها الانتخابات التعددية السابقة، إذ إن انتخابات أول برلمان سوداني أقيمت في أواخر عام 1953م، كانت تحت اشراف لجنة برئاسة سكومارسن، وكان الحاكم العام البريطاني آنئذ هو مستر روبرت هاو.. وأجريت الانتخابات العامة في الديمقراطية الثانية في ظل حكومة انتقالية، لم تكن طرفاً منافساً في الانتخابات، وتخلت عن السلطة فور انتخاب وانعقاد الجمعية التأسيسية، وأجريت الانتخابات في التعددية الحزبية الثالثة في ظل مجلس عسكري انتقالي ومجلس وزراء انتقالي وانتهت مهمة المجلسين فور انعقاد الجلسة الأولى الإجرائية للجمعية التأسيسية.. أما الانتخابات الماثلة حالياً فإنها تقام في ظل نظام حاكم ممسك بخيوط السلطة والمال والأمن ومسيطرا على أجهزة الدولة لمدة واحد وعشرين عاماً متصلة، تمدد فيها تمدداً اخطبوطياً وازال الحواجز تماماً بين الدولة والتنظيم، وهو يخوض هذه الإنتخابات وهدفه الأول هو اضفاء شرعية دستورية على نفسه بديلاً لشرعية الأمر الواقع التي فرضتها اتفاقية نيفاشا.. وتخوض الانتخابات أحزاب معارضة للنظام ، واخرى موالية له دائرة في فلكه، مع خوض عدد من المستقلين للانتخابات في مستوياتها المختلفة، وأن الذي لا يختلف حوله إثنان أن كفتي الحكومة والمعارضة غير متوازنتين من حيث الاستعدادات والقدارت المالية، والفرق شاسع وواسع بين من يقدر على تقديم الدعم السخي والخدمات مستنداً على آلية السلطة وبين من لا يملك شيئاً يقدمه، ولكن وفي كل الأحوال ومهما كانت النتائج، فإن أحسن وأفضل ما في هذه التجربة أنها ترسي لقيام انتخابات دورية عامة كل أربعة أعوام ( والعافية درجات) ونأمل أن يرضى الجميع بالنتائج عند إعلانها. وإن البعض يتحدثون عن الأحداث الدموية المؤسفة التي حدثت في كينيا وزيمبابوي وغيرهما، وما يثيرونه من تخوفات هي محض تخرصات، ولكن مع ذلك فإن الحذر واليقظة واجبة إذ ربما تحدث بعض الحالات الفردية هنا أو هناك، تتبعها تحرشات تحركها أيدٍ خفية خبيثة، ولذلك نأمل أن تعلن النتائج دون أن تتبعها احتفالات فرح هوجاء، بطريقة رعناء، يمكن أن تتبعها ردود فعل أكثر رعونة، وعلى الجميع أن يهيئوا أنفسهم بأن المحصلة النهائية ليست فيها غالب أو مغلوب. وقد انفقت أموال طائلة في العملية الانتخابية منذ بدايتها مروراً بكل مراحلها، وأن أي تجميد أو تأجيل معناه أن تكون هذه الأموال الطائلة قد ذهبت هدراً وهباءً منثوراً، وكما هو معروف فقد عقدت بعض القيادات الحزبية مؤتمراً في جوبا قبل أشهر، وكان عدد منهم يأمل في أن يؤدي هذا التحالف لمقاطعة الانتخابات، ولكن بعضهم يبدو أنه غير راضٍ عن تأجيل أو الغاء الانتخابات، وللخروج من هذا الحرج دغدغوا عواطف الآخرين بمحاولة إقناعهم بتقديم مرشحين للرئاسة لتشتيت الأصوات في الجولة الأولى، وبلع الكثيرون منهم الطعم، وترشحوا وخاضوا الانتخابات بأنفسهم، وعندما أبحرت سفينة الانتخابات وصارت على مشارف الوصول لليابسة، أدركوا أنهم في وضع لا يحسدون عليه، إذ إن الرجوع لنقطة التحرك الأولى، والانسحاب من البداية قد فات أوانه، وأن الوصول للمرسى والشاطئ الآخر بنجاح أمر غير مضمون وأن القفز من السفينة بعد أن قطعت أكثر من ثلثي المسافة فيه إقرار بالفشل وتتبعه شماتة الشامتين من المنافسين الفائزين، أو الأنداد الفرحين بهذه النتيجة، وبعض المرشحين للرئاسة لا يطالبون بالتأجيل وهم غير طامعين في الفوز، وربما يحصل بعضهم على أصوات من كل أرجاء القطر، تقل كثيراً عن عدد الأصوات التي يحصل عليها نائب واحد من الأعضاء الفائزين في دائرة واحدة من الدوائر الجغرافية، والمهم بالنسبة لبعضهم أن يعلن أنه مرشح وكفى، وكذلك لابد من وضع ضوابط وشروط للترشيح، تحفظ للمنصب الرفيع وقاره وهيبته. وقد استفادت الحركة الشعبية من تحالف جوبا وأتخذته أداة ضغط على المؤتمر الوطني شريكها الأكبر في الحكم، وهي مدينة بالشكر لمن نظموا هذا المؤتمر الذي تمخض عنه حلف اتخذته سلماً للصعود عبره لمراميها، وخرج الآخرون من المولد بلا حمص، وأدركوا بعد فوات الأوان أنهم كانوا يجرون خلف ماء السراب، ولكن بعض السياسيين الذين ليس لهم تنظيم يسندهم، أرادوا أن يفرض الواحد منهم نفسه ناطقاً رسمياً، وقائداً لأحزاب كان خصمها التاريخي اللدود، ويسعى لاتخاذ وسيلة ضغط لمقاطعة الانتخابات، التي يدرك أنه لن ينافس فيها في أية دائرة جغرافية في كل أنحاء القطر، ومع ذلك يسعى لحالة من الفوضى يأمل أن تحمله لسدة رئاسة حكومة انتقالية ظل يحلم بها في الخيال!. وإن بعض المعارضين المطالبين بتأجيل الانتخابات يزجون بقضية دارفور، رغم أن كل سكان دارفور الكبرى القاطنين في مدنها وقراها وبواديها، لم يبدوا أي اعتراض على قيام الانتخابات، وأعلن الدكتور التجاني السيسي رئيس حركة التحرير والعدالة، بعد توقيعه باسم الحركة على الاتفاق الإطاري مع الحكومة أنهم مع تكملة إجراء الانتخابات، ويطالبون بتهيئة الظروف الملائمة للاجئين والنازحين في المعسكرات، لممارسة حقهم الدستوري والأدلاء بأصواتهم في الانتخابات.. أما حركة العدل والمساواة بقيادة دكتور خليل فإنها تطالب بتأجيل الانتخابات، ولو تخيلنا أن هذا الشرط قد أجيز، فهل يتم التأجيل في دارفور فقط أم في كل السودان؟ وهل خليل وصى على الشعب السوداني، وهل هو وصي على كل دارفور، وإذا أراد أن يكوِّن حزباً يخوض بموجبه الانتخابات، فكم يستغرق ذلك من الزمن؟ وهل يضمن أن يحصل على أغلبية ساحقة كاسحة في دارفور بكل اثنياتها تقف خلفه، وتضمن له الفوز عبر صناديق الانتخابات؟ وفي تقديري أن ما سيحصل عليه من مواقع في قسمه السلطة عبر الإتفاقية المبرمة لن يحصل عليه عبر صناديق الاقتراع، وعليه أن يكون واقعياً وعقلانياً كدكتور السيسي الحاكم الأسبق لدارفور الكبرى، والأستاذ الجامعي المحترم الذي رفض أن تكون دارفور مخلب قط للآخرين، يسعون للوصول لمراميهم عبرها. ولا زال في الوقت متسع، وفي تقديري ستجري تحت المائدة تحالفات وتنازلات ومساومات، قبل بدء الاقتراع، وفي كل الأحوال فإن شيئاً خير من لا شئ، وقيام انتخابات دورية خطوة للأمام، وايقاد شمعة خير من لعن الظلام.