كلما اشتدَّ الشجار بين اثنين يطلع بينهما ثالث ويقول لهم باركوها يا جماعة.. فلان كدي قول يا لطيف.. يا أخوانا صلوا علي النبي.. فتهدأ النفوس وينفضّ الخلاف.. وعلى هذا النهج سار السودانيون الذين جاءوا إلى المدينه بروح القرية، فعندما يقع حادث حركة ويتجمهر المارة تتردد نفس العبارات أعلاه باركوها.. إلخ.. بل حتى رجل الشرطة إذا حضر في مثل هذه الحوادث يجنح إلى الصلح والمباركة، ولا يستعجل في إجراءات فتح البلاغ ورسم الحادث واقتياد المدعى عليه إلى الحراسة، إلاّ إذا وقع الأذى الجسيم أو الموت فإن الأمر يستدعي بعض الإجراءات، والتي ينتهي الغالب منها إلى ذات النتيجة في مراحل مختلفة وحتى «الدَّية» يعفيها أهلها.. ومن العبارات الشائعة يقول الواحد للآخر.. «هسع إن جيناك في رقبة ما بتعفيها لينا»؟! وقد يكون من الوضوح بمكان لأي مراقب للحياة الاجتماعية والثقافية السودانية، أن السودانيين شعب حساس ورقيق وعاطفي ومتسامح، وإن كانت أغانيهم لا تعكس هذه المشاعر فعندما تسمع: «النار ولَّعت بكفي بطفيها.. وروني العدو وأقعدوا فرَّاجة.. والمِّيت مسولب والعجاج يكتح.. أحيَّ علي سيفو البسوي التَّح».. وغيرها يعتقد أننا قومٌ من القتلة والسفاحين ومصاصي الدماء.. حتى إن بعض جيراننا كانوا يعتقدون بأن أهل السودان من أكلة لحوم البشر وكل هذا غير صحيح.. فالصحيح إننا شعب كريم وطيب ومضياف يكره الضيم ولا يخشى إلاّ الله.. وفي ذات الوقت يكره مجرد رؤيه الدماء ويحل جلَّ مشاكله «بالجودية».. والتي أصبحت منهجاً يدَّرس في هارفارد أرقى الجامعات الأمريكية. ماجرَّني لهذه المقدمة الطويلة.. هو حرب الشائعات التي تحكي عن حوادث كبيرة وخطيرة ستصاحب إجراء الانتخابات.. مما قد يؤثر على إقبال الناخبين على صناديق الاقتراع، مع أن الانتخابات في السودان ليست جديدة إلاّ على فئة من الشباب الذين يحق لهم التصويت لأول مرة.. ولم يحدث أبداً أن وقعت مشاكل ذات بال في أي عملية انتخابية في السودان.. وهذا ما توصل إليه الجنرال غرايشن مندوب الرئيس الأمريكي للسودان..والذي أضفت إليه ملاسنات المعارضة «عضوية المؤتمر الوطني».. مع إن الرجل يعمل وفق منظومة أمريكية مؤسسة على المعلومات والفحص والتحري، فهو لا يطلق كلاماً على عواهنه فعندما يعلن عن ثقته في المفوضية القومية للانتخابات.. «وأن الانتخابات ستكون حرة ونزيهة وشفافة قدر الإمكان» فهو يعلن بذلك عن موقف بلاده، والذي يستند على تقييم حقيقي ومعلومات وتحليل وعمل مؤسسي.. اختلفنا مع نتائجه أو اتفقنا . وعندما تقوم الشرطة السودانية بإجراء طابور لإظهار القوة- وهو تكتيك معروف عند العسكريين كما أسلفنا بالأمس- فهي لا تستهدف بذلك أحداً ولا جماعة.. وإن كان لسان حالها يقول «الكلام ليك يالمطير عينيك» وهم يعرفون أنفسهم.. ثمَّ ميزانية الشرطة مخصصة لهذه الأغراض.. في الدنيا كلها.. فهي- أي الشرطة- لا تتوقف عن التدريب والتسليح والتنظيم والتحديث والتجنيد، وإعلان جاهزيتها تحت كل الظروف حتى ولو رعى الذئب مع الغنم.. أو أمسك القط بيد الفار وقطَّعه الظلط.. إذ لابد من وجود شرطة مستعدة لكل الاحتمالات.. ولسنا في يوم حنين لتعجبنا كثرتنا والتي لن تغني عنا من الله شيئاً.. لكنه الحذر الذي لا يمنع القدر وإن كان يمنع الندم. تلقيت اتصالات عديدة تشيد بمقال«البوليس جااااكم» خاصة من قيادات شرطية مرموقة، يعوِّلون كثيراً على شيم الشعب السوداني وكريم أخلاقه وكراهيته للعنف وبعده عن الانتقام، واستدلُّوا على ذلك بأن الانقلابات العسكرية في السودان بيضاء.. وأن الثورات الشعبية بيضاء.. وكذلك الانتخابات بيضاء.. وهذا ثابت طوال تاريخ السودان السياسي منذ فجر الاستقلال والي الآن.. عمنا الخليفة محمد طه «خليفة السيد الحسن» وإمام جامع الختمية بكسلا.. جاء إلى الخرطوم لأول مرة وطلب من سائق التاكسي قائلاً: «ودِّيني الدايرة» يقصد دائرة الختمية، لكن السائق ذهب به إلى دائرة المهدي.. فوجد نفسه أمام السيد الإمام عبد الرحمن المهدي.. فأسقط في يده.. لكن الإمام قال له: «طيبون» أظنك داير أخونا السيد علي.. «وكان الخلاف بين الزعيمين في أوجه»، فرَّد الخليفه: نعم.. فأفاض عليه الإمام من وابل كرمه وأرسله بعربته الخاصة مع ملازمه باب الله إلى حلة خوجلي.. وأمام السيد الرئيس فرصة أن يكون زعيماً لكل السودان بما عرف عنه من كرم أخلاق.. خاصة بعد الانتخابات لغسل كل ما علق في النفوس. وهذا هو المفروض..