بعد أن قُضي الأمر «الذي فيه تستفتيان».. وانتهت الانتخابات إلى النتيجة المعلومة والمتوقعة سلفاً، وبغض النظر عن رأينا أو رأي المعارضة أو رأي المراقبين الدوليين والمحليين ورأي الدول الراعية لاتفاقية السلام، فنحن اليوم أمام واقع «جديد- قديم». نعم هو جديد وقديم في آن معاً، قدمه يتبدى في كونه أتي بذات الحزب الذي ظل حاكماً بقيادته وشخوصه وبرامجه وسياساته خلال عقدين ونيف من الزمان، لكن- مع ذلك- فإن جدته تتأتى من أنه خاض انتخابات للحصول على شرعية بأصوات الناخبين، شرعية مستمدة من «صناديق الاقتراع» وليس «صناديق الذخيرة» مثلما كان عليه الحال قبل الانتخابات، بل قبل اتفاقية السلام. أما نحن، أهل الصحافة، أو بعض أهلها، الذين يتقاصر طموحهم- مع سبق الإصرار- عن التفكير، ولو في المنام، لنيل أي منصب رسمي، أكان تشريعياً أو إدارياً أو وزارياً، في يوم من الأيام، حتى لو أتانا راجلاً إلى عتبات دورنا وطارقاً بإلحاح على أبوابها، فمن حقنا الطبيعي أن نفكر من موقعنا هذا وشغلنا الذي كرسنا له حياتنا، في كيف تكون مساهمتنا في إقالة عثرات شعبنا ووطننا- وما أكثرها- دون أن نرجو من ذلك جزاءً ولا شكوراً. وبما أن الصحافة يمكن تصنيفها في بعض وجوهها ضمن مدارس «الفنون الواقعية» في التشكيل والتصوير، ذلك لأن من بين مهامها الرئيسية وشغلها الأساسي تصوير الواقع كا هو، ونقل حقائق ذلك الواقع، بأمانة الخبر وموضوعية التقرير ونزاهة التحليل وشجاعة الرأي المخلص، الذي يتوخى صناعة «رأي عام» وبلورة مواقف تصب في مصلحة الوطن وتحاصر الضرر وتمنع الانهيار. لذلك، وفي ظل هذا «الواقع الجديد» الذي أفرزته الانتخابات العامة، فإن المطلوب من «الحزب الغالب» بعد أن أصبح «حزباً منتخباً» أن يعكف على مراجعة حصيفة وشاملة لمجمل تجربته ومسيرته الماضية، مراجعة من أجل تجديد برامجه وتطوير آليات حكمه وإمعان النظر في أساليب إدارته ليصبح بإمكانه التفوق على ذاته، بعد أن تفوق على غيره بوسائل القوة أولاً، وبتدابير «التمكين» وعطاياه من بعد. وهذا ما يمنحه في واقع ما بعد الانتخابات «حرية أكبر» في تعزيز السياسات ويحرره من الضغوط المتعددة والمتنوعة التي كانت تدعوه، بل تجبره أحياناً، في ما مضى على «استرضاء» فرقاء كثر، كان استرضاؤهم يأتي ضمن مصلحة استمرارية حُكمه وشرعيته، وهذا ما يجعلنا (نحلم) ونطالبه ابتداءً بالكف عن «سياسة الاسترضاء» التي تمخضت عن جيش جرار من المناصب الدستورية، والوظائف الإدارية والاستشارية التي كانت تستهلك موارد هذه الدولة، التي لم تخرج يوماً- قبل وبعد البترول- عن تصنيفها دولياً ضمن مجموعة الدول الأكثر فقراً، بالرغم مما تذخر به أرضها من موارد وخيرات. وحتى نكون أكثر تحديداً ومباشرة فإن المطلوب من الرئيس المنتخب عمر البشير، أن يستخدم «التفويض الانتخابي» الذي حصل عليه في تخليص هذا الوطن- أولاً وقبل كل شيء- من عبء «الحكومة الثقيلة» التي ناءت بكلكلها على ظهر الشعب لسنوات طوال متعاقبات، تستهلك موجودات الخزينة العامة في المرتبات والمخصصات وتأثيث المكاتب والمنازل ووقود السيارات، وأجور الاتصالات والاحتفالات- بمناسبة وبدون مناسبة- والإعلانات المدفوعة للإذاعات والتلفزيونات والصحف بالتهاني والتبريكات حتى لو حصل أحدهم على شهادة دراسات عليا، تخصه هو ولا تضيف شيئاً للوطن أو لحقل المعارف الإنسانية. المطلوب من الرئيس المنتخب إعادة النظر في حجم الحكومة الاتحادية وأحجام الحكومات المحلية (الولائية)، وأن يجمع ويوحد كل الوزارات التي تعمل في حقول متشابهة أو متكاملة في وزارة واحدة، فيجعل على سبيل المثال لا الحصر، وزارات الزراعة والثروة الحيوانية والغابات والبيئة وزارة واحدة. وأن يجعل من وزارة الصناعة والطاقة والتعدين وزارة مركزية واحدة، وكذلك الحال مع وزارات المالية والتخطيط الاقتصادي والتجارة والاستثمار. وأن يولي أمر البناء والتشييد كله- للطرق والجسور والسدود والمساجد والكنائس والمدارس والجامعات- لوزارة واحدة هي وزارة الأشغال العامة، مثلما بإمكانه أن يوكل أمر النقل كله- براً أو جواً أو بحراً- لوزارة النقل والاتصالات، هذا طبعاً بالإضافة إلى وزارات السيادة المعلومة الخارجية والداخلية والدفاع والعدل. والمطلوب أيضاً هو التخلص من جيش «وزراء الدولة» الذين يصل عددهم في بعض الوزارات إلى اثنين أوثلاثة وأن يكتفي في معظم الوزارات بوزير ووكيل، وعند اقتضاء «الضرورة القصوى» يمكن تعيين مساعد للوزير، وأن يكتفي بأقل قدر من المستشارين والموظفين السياسيين الذين معظمهم بلا شغل كأولئك الموصوفين ب«الخبراء الوطنيين»، بحيث يتم تفريغ القصر الجمهوري من ذلك «الجيش العرمرم» ويبقى فيه من لهم أعمال محددة بوصفٍ وظيفي معلوم. أما في شأن «الحكومات الولائية»، وبما أن معظمها «ما جايبه حقها» وتعتمد على تحويلات الخزينة المركزية، وبما أننا حريصون على ترسيخ النظام الاتحادي «الفيدرالي» ولا مركزية الحكم من وجهة نظر سياسية ومستقبلية، فإن المطلوب هو اختصار هذه الحكومات الإقليمية في أقل عدد من الموظفين السياسيين، وأن تكون درجة الوالي الوظيفية من حيث الراتب والمخصصات لا تزيد على درجة «محافظ» في جمهورية مصر على سبيل المثال، وأن لا تتعدى وظائف معاونيه درجة «المدير العام» في أي إدارة حكومية، الأمر الذي يجعل الدعم القادم من الخزانة المركزية يتجه للتنمية والخدمات الأساسية التي هي محل الشكوى الدائمة للناس، لأن مثل هذا الدعم غالباً ما يذهب ل«رفاهية» الوزراء وكبار المسؤولين في هذه الولايات، وبصراحة لقد عشنا سنوات طويلة من عمرنا في دول الخليج الغنية والثرية ولم نر هدراً للمال العام كهذا الذي نراه يحدث في بلادنا. بهذا، وبهذا فقط سيشعر الناس أنهم يستشرفون عهداً جديداً، عهد حكومة منتخبة ومفوضة بأصواتهم وليست مفروضة عليهم، وهي بذلك ستكون «حكومة خفيفة وظريفة» حكومة لا تثقل كاهلهم بالجبايات المحلية و«تبلع» الدعم القادم من المركز وتقول هل من مزيد!.. نعم المطلوب تخفيف الحكومة في المركز والولايات وآخر دعوانا.. اللهم نسألك التخفيف!