يطير قلبي من صدري، وأحس باحتباس الأنفاس كلما تورطت في زحام السوق العربي، أو كلما وقعت بشراك الحركة في شارع الهجرة قرب صينية أزهري! من أين يأتي كل هؤلاء الناس ؟! مئات الآلاف يخرجون كل يوم، يذهبون ويجيئون، يزحمون ويزاحمون، يكسبون ويخسرون، يجنون المال بعرق جبينهم أو بعرق جبين آخرين، يتدافعون بأجسادهم أو بمركباتهم في مساحات ضيقة لم تخلق لكل هذه الأمواج، وفي نهاية اليوم يؤوبون لمهاجعهم، ليكسبوا قسطا من الراحة، ثم يشمروا عن السواعد استعدادا ليوم جديد . والله لو أعطوني عشرة أضعاف راتب والي الخرطوم، وطلبوا مني أن أجلس مكانه، لهربت بجلدي إيثارا للسلامة ! الخرطوم دنيا، هي عالم مضغوط ومتزاحم ومتناقض و.. منسجم ! مضغوط لأنه منتشر في منطقة محدودة بقياس حجم الوطن، ومتزاحم بقياس عدد الأمتار المتاحة لكل شخص كي يتحرك أو يسكن خلالها، ومتناقض بحكم تعدد الأهواء والسحنات والرؤى والتيارات فيه، ومنسجم بحكم حاجات السكان المشتركة اليومية من مأكل ومشرب ومواصلات وصحة وكهرباء وماء وسكن. مشكلة الخرطوم الكبرى أنها مصنوعة لزمان غير زماننا، هي مدينة تحاول أن تواكب الحاضر لكنها مكبلة بأثقال الأمس. افتقدت العاصمة في كل أزمنتها للخيال، الخيال في التخطيط، والخيال في موازنة التوسع الرأسي بالأفقي، والخيال في صيانة ما يتم إنجازه، والخيال في استيعاب الأمواج التي تنضم يوميا لبحر الخرطوم البشري المتلاطم ! من أين يأتي الناس في العاصمة ؟! الإجابة المباشرة أنهم يأتون من الهجرة، ويأتون من التناسل ! فحل والله أنت يا رجل الخرطوم، وخصبة أنت يا حواء العاصمة ! المشكلة أن الآخرين لا يتركون لمن يجيء تناسلا أن يزهر، وأن ينمو معافى، لأن آخرين يأتون يوميا، هاربين من أصقاع النسيان، من بؤر المعاناة والتجاهل والإهمال، ليقيموا في العاصمة، وليقتسموا مع الآخرين كعكة الزمان والمكان، وليكونوا قريبين ممن يمكن أن يسمع صوتهم. هكذا إذن يتزاحم الخلق، البعض يأتي للدنيا ميلادا، والبعض يأتي نزوحا، فتتواصل المعادلة الهندسية في التكاثر السكاني بالعاصمة. طبعا والي الخرطوم، لن يستطيع رفع الراية البيضاء، ولو كان ممن يفعلون لما تصدى للمنصب، وهو قطعا يتسلح بقدرات .. بشرية ومادية، ويتسلح بخيال، فالخرطوم ورطة لا بد من مداواتها ببعض الخيال، تلك الصفة التي غابت جزئيا عن سابقين، فتحولت العاصمة لعلبة ساردين، رغم تمدداتها التي وصلت الحد، حيث لم يبق لها (حوش) تتهوى منه، أو تمد رجليها فيه ! لا أملك الحل، فلحسن الحظ أنني لست الوالي، فماذا سنرى من صاحب المنصب، في مقبلات الأيام ؟!