بذائقته الأدبية المشهودة، وفي عموده الراتب «ومع ذلك» في (الأحداث) دعا د. عبد الله علي إبراهيم الوحدويين السودانيين إلى التخلي عن «اللَّكلكة»، بمعنى التردد وعدم الوضوح، ومثمناً «بطريقته»- التي لا تخلو كذلك من «لكلكة ملطفة»- شجاعة الانفصاليين الشماليين لاتخاذهم قراراً واضحاً (غاية في الخطأ) كما قال. دون أن يقف عند حقيقة بسيطة هي أن «الشجاعة في الخطأ» أو الجرأة في الباطل ليست إلا «التهور» عينه، ولم يكن التهور في يوم محموداً أو مشكوراً. لكن عبد الله أراد من ذلك- على علاته المنطقية- مدخلاً لنقد الوحدويين و«شيل حالهم» من دون ذنب جنوه أو تقصير اقترفوه. بيني وبين عبد الله منذ عهد الطلب بجامعة الخرطوم مودة وصداقة لا أعرف لها سبباً غير «القبول من الله»، لم يجمعنا «تنظيم» سياسي أو ثقافي ك«أبادماك». ومع ذلك دامت الصلة واستقرت المودة في نفسينا. لكن ما لفت نظري في مقال عبد الله هذه المرة والذي جاء تحت عنوان: «الوحدة: بلاش لكلكة» هو قبوله لنيفاشا ب«عَبَله» وما «عبلها» إلا «تقرير المصير» و «محاصصة السلطة والثروة» على أسس جهوية أو مناطقية، وكلاهما جاء «كسِرْ رقبة» ومحصلة لحرب من أجل العدالة وإحقاق الحقوق، تحولت لاحقاً- بعد انقلاب الإنقاذ- إلى حرب «دينية- جهادية» تقام على وقع طبولها «أعراس الشهيد بشاشة»، فارتفع بذلك سقف المطالب من الوفاء بمطلوبات الحرية والتنمية العادلة والمتوازنة إلى «تقرير المصير»؛ الذي جرت العادة بين الشعوب أن يكون مقدمة «للانفصال» الذي كان في بلادنا من قبل مُستخذىً ومنبوذاً. فوصفه عبد الله بلغته المبهرة بأنه «جوع للحرية اتسم به بلدنا الذي تقلب على تجارب علمته أن شرط بناء الأوطان الخيرة هو الحرية بما في ذلك حق مغادرتها بصورة نهائية». وهو كلام غاية في «الجمال النظري»، لكن- من دون قصد عبد الله- في ظاهره الرحمة ومن قِبله العذاب، فلا دولتنا الموروثة من زمن الاستعمار «بحاجة إلى إعادة اختراع»، لأن إعادة اختراعها يعني تفكيكها وتشطيرها، ولن يكون أحدٌ في الشمال والجنوب بمنجاة من مطارق وسكاكين التفكيك والتشطير هذه، نظراً للتداخل والتشابك الأثني والثقافي والمصلحي، وحكايات «الطلاق السلمي» و «الانفصال السلس» و«الجوار الأخوي» هي بعض أحلام ظلوط، وما وعد «9 يناير 2011م» ببعيد وسنرى جميعاً حينها كيف أن «الموية بتكضب الغطاس»، وكيف أن الاستفتاء على حق تقرير المصير «خطر دائم» كان علينا «التوقي من بوائقه» قبل فوات الأوان. نوافق عبد الله في «نبيشته» لمقولة «الوحدة الجاذبة» التي نحتها مفاوضو نيفاشا وسارت بها ركبانهم من دون أن تبلغ مأمنها، لا بالكسب المادي الذي يسترخص مقام «القضية الوجودية- الوطنية» ولا بالكسب السياسي الذي يصلح حال البلاد ويؤسس لدولة الوحدة والديمقراطية والعدالة والمساواة. ربما لم ينتبه أخونا عبد الله للحبر الكثير الذي دلقناه خلال السنوات الماضية في نقد مقولة «الوحدة الجاذبة»، وفكرتها التي تحول وحدة الوطن إلى «بضاعة» معروضة في «فترينة» يمر عليها السابلة والمتسوقون، يتفرجون ولا يشترون، كما هو حال بعض الناس عندما يؤمون سوق «سعد قشرة»، وما هكذا تعالج مصائر الأوطان وأقدارها. وتماماً كما كتبت- لا فُض قلمك- «القضية بَعدُ تاريخية ينهض بها أولو العزم في قراءة غرَّاء للتاريخ وسير الأمم»، لكن لننزل بالأمر من رفعة مقامك الأكاديمي السامق إلى أفهام العامة، ولحسن الحظ فإن عامة شعبنا «يفهم في السياسة» فإن المطلوب تحديداً لجعل «الوحدة جاذبة»- حتى لا نختلف مع أهل نيفاشا في الصياغات والألفاظ- هو تأسيس الدولة الديمقراطية الموحدة المستوعبة لجميع الأعراف والثقافات والأديان التي يذخر بها السودان، ومن ثم تأتي قضايا العدالة الاقتصادية والتنمية المتوازنة لتحقق الرضاء العام والشعور بالانتماء الوطني، ولتتكامل «معادلة السياسة- والاقتصاد» وتتحقق الجدوى وطلاوة التعايش والتساكن الآمن والمشترك. «عقدة المنشار» التي زرعتها نيفاشا أخي عبد الله- تحت ذريعة وقف الحرب بأي ثمن- هي منحوته لغوية أخرى «سودان بنظامين» تم «توضيبها»- كما تعلم- في «الورقة الأمريكية» «بورشة مركز الدراسات الإستراتيجية»، وكنا نبهنا أيضاً لخطر تلك «العُقدة» فور صدور تلك الورقة التي أسست لنيفاشا- وصح حدسنا، وهي التي تفرعت عنها مقولة «الوحدة الجاذبة». فدهاقنة ذلك «المركز» فكروا وقدروا هم ومعاونوهم من السودانيين المنحازين- قلباً وقالباً- لفكرة التقسيم، أن الطريقة المثلى لوقف الحرب وضمان «مستقبل الانفصال» هي «اختراع سودان بنظامين»- إسلامي في الشمال وعلماني في الجنوب»، وليصبح الاختراع «مبلوعاً» تم «تزييته أو تشحيمه» بمقولة «الوحدة الجاذبة»، مع علم أولئك الدهاقنة المسبق بأنه لا سبيل للتخلص من تلك «العُقدة» التي زرعوها، خصوصاً في أجواء الانغلاق الفكري التي جعلت من «العلمانية» لفظاً مرادفاً ل«الكفرانية»، بالرغم من أن العلمانية «خشم بيوت» منها المتطرف الذي ينفي الدين من الحياة، وذلك تطرفٌ آخر لا يقل بشاعة عن تطرف الجماعات التكفيرية، ومنها ما يجعل من العلمانية صيغة ل«التصالح والوحدة الوطنية» ويحصر الأمر في فصل السلطات وحرية والأديان وكريم المعتقدات واحترام الأعراف، فيجنب الأمة غوائل الصدامات والنزاعات العرقية والدينية، ولتصبح بذلك إحدى مظاهر الديمقراطية والتعايش السلمي في وطن واسع ومستوعب كوطننا، لذلك لجأ الكثير من الوحدويين للاستعاضة عن لفظ «العلمانية» لما شابه من تعميم وتشويه جراء الديماغوجية والمغالطات الغوغائية أو إن شئت «الورجغة»، بمطلب «الدولة المدنية الديمقراطية» عوضاً عن الدولة «الدينية» أو «العلمانية»، وهي وحدها، إذا ما تواضع عليها أهل السودان وجعلوها صيغة للحكم في المركز الاتحادي «الفيدرالي» للدولة، وحدها الكفيلة بتحقيق الوحدة «بدون اللكلكة» وتجعلهم جميعاً يُنشِدون و «يشيلون» مع المغني «سودان بلدنا وكلنا أخوان».