بيني وبين الدكتور الواثق كمير ود قديم وراكز وصداقة متصلة، برغم تباعد الشقة وتشرد كلينا في الآفاق، كان ولا يزال يحرص مشكوراً- على التواصل عبر متابعة ما أكتب، وتزويدي بإنتاجه الفكري الجديد وكان قد أهداني في الثامن من أغسطس 2005 نسخة من كتابه الموسوم (جون قرنق.. رؤيته للسودان الجديد) فتناولته بالقراءة والتعليق في عدة(اضاءات)، ثم من بعد بعث الي بورقته المهمة(دعوة للحوار: الحركة الشعبية والعودة الى منصة التأسيس) منذ عدة شهور قبل نشرها بصحيفة (الأحداث) وخصصت لمناقشتها أكثر من حلقة في هذه المساحة. وأخيراً أرسل الي عبر بريدي الإلكتروني ورقته الجديدة(طلقة أخيرة في الظلام) في السابع من مايو الحالي واتصل بي يستخرج رأيي فيما ذهب اليه قبل النشر في صحيفتي(الأحداث) و(الرأي العام) الوقورتين. ما وثق علاقتي بالواثق هو مجموعة من الخصال الآسرة التي قلما تجتمع في شخص من مثقفي هذا الزمان.. أقولها ليس مدحاً وانما لتوصيف حالة، فهو على درجة كبيرة من النقاء والمودة المبذولة دون انتظار لمقابل، مثلما هو ذو سقف عال من شجاعة الرأي التي هي وليدة التعفف والزهد في المناصب، وإلا لما هجر كرسيه محاضراً للعلوم السياسية بجامعة الخرطوم ليلتحق بالحركة الشعبية في هجرة لايعلم منتهاها إلا الله. كان الواثق خلال زيارته الأخيرة للسودان التي لم نفترق فيها يوماًً إلا وكنا على تواصل عبر الهاتف، غاضباً وقلقاً، ليس لشأن يخصه، ولكن لأجل الوطن ومصيره المعرض للضياع. فهو من القلائل الذين رفضوا تسنم أي موقع عرض عليه إثر(حفلة توزيع المناصب) بعد نيفاشا، فقضية وحدة البلاد وتقدمها تتقدم عنده على كل شئ آخر، لذلك خصص كتابه (جون قرنق.. رؤيته للسودان الجديد) لتعميق المفاهيم التي أتى بها الزعيم الراحل بالشرح والتحليل والاضافة، من أجل إعادة بناء الدولة السودانية الديمقراطية الموحدة. وكان يقول لي: لماذا التحقنا نحن أبناء الشمال بالحركة الشعبية؟.. ويجيب على السؤال بنفسه نحن ذهبنا الى الحركة من أجل سودان واحد وديمقراطي ومتطور، وليس لمساعدة الجنوب على الانفصال. يوم الاثنين الماضي، وبعد خروجي من جلسة المفاكرة مع الإمام الصادق المهدي التي تناولتها في (اضاءة) الأمس، رن هاتفي وأنا أقود سيارتي عائداً الى الخرطوم، وكان المتصل من تونس هو دكتور الواثق، فكانت دهشتي مثلما دهشته هو الآخر عظيمة. فقد قلت له: إنها مصادفة غريبة فقد كنا قبل لحظات في سيرتك. فسألني: ان شاء الله خير.. مع من؟ فأجبته: مع الإمام الصادق. فقال: غريبة، فما أعلمه أن الإمام لا يرتاح لما أطرحه من أفكار وبيننا جدل واختلاف. قلت له: على العكس فان الإمام قد حصل على ورقتك الأخيرة (طلقة أخيرة في الظلام) واحتفى بها أيما احتفاء واستشهد بما ورد فيها من أفكار صائبة حول القضية الرئيسية التي كنا نتفاكر فيها (قضية الوحدة والانفصال) خصوصاً مقترحك الخاص بإنشاء منبر قومي أهلي يحمل عنوان(منبر مستقبل السودان). وأفضى الإمام بملحة طريفة قال فيها إن أفضل المثقفين هم(الشيوعيون السابقون والإخوان المسلمون السابقون.. بشرط أن يكونوا سابقين)! وهنا انفعل الواثق وقال بمباشرته المعهودة: ومن قال له انني كنت شيوعياً فيما سبق، فأنا لم أنتم يوما لحزب سياسي وهذه فرية تلاحقني بلا سبب. هدأت من روعه، وقلت له على كل حال دع الناس يظنون ما يظنون، ولكن بعلمك أو بدونه فأنت أصبحت مصنفاً يساراً رغما عن أنفك، وتلك تهمة لا تستحق الرد، فقد أصاب مثل هذا التصنيف حتى الصحابة الكرام من أمثال (أبوذر الغفاري) فكل من يدافع عن حق المستضعفين في الحياة الكريمة وكل من يحارب الفساد والأنانية واكتناز المال يصنف(يسارياً) وكل من يفعل العكس يصنف يمينياً رغم أنفه أيضاً. كان اتصال الواثق بغرض ابلاغي بمواعيد النشر في الصحيفتين. ورقة الواثق الجديدة(طلقة أخيرة في الظلام)، هي بمثابة محاولة أخيرة فعلاً لإنقاذ ما يمكن انقاذه، عبر المناصحة المخلصة للحاكمين والمحكومين شمالاً وجنوباً، حول ما يمكن فعله لتجنب المصير المشؤوم الذي قد يقود اليه الإستفتاء على حق تقرير المصير للجنوب، اذا ما ذهب الجنوب الى خيار الإنفصال، وبرغم أن الورقة قد استعرضت بتوسع شديد الكثير من الوقائع والحقائق المعلومة ربما بغرض التوثيق والتصنيف وقيادة القارئ لخلاصات مرتبطة عضوياً بذلك التوثيق والتصنيف كشأن المحاضرين أساتذة العلوم السياسية، إلا أنها احتوت في الوقت ذاته العديد من الأفكار الجديدة والنصائح المشفقة، كما اتسمت بالحياد الموضوعي والايجابي في آن معاً، خصوصاً عند توجيهه الحديث الى من هم في قمة المسؤولية ومن بيدهم الحل والعقد في هذه اللحظات الحاسمة من تاريخ بلادنا وهم شريكا الحكم (المؤتمر الوطني) و(الحركة الشعبية) والرئيس عمر البشير وسلفاكير على وجه التحديد، ولم تكن هذه النصائح المشفقة ضرباً من (الطبطبة) أو تطييب الخواطر، انما من خلال التنبيه لمواطن الزلل والخلل في النهج السياسي لكلا الحزبين الحاكمين، والطرق على الحقائق المؤلمة، وتزويدهما بالمفاتيح المهمة(للأبواب المغلقة)في علاقة الشراكة وفي علاقة كليهما بالقوى السياسية الأخرى التي وجدت نفسها بفعل الإنتخابات الأخيرة بعيدة عن مواقع صناعة القرار في(قضايا مصيرية)لا تهم الحاكمين وحدهم بل تهم جميع من له سهم في هذا الوطن وهذا ما سنتناول بعض تفاصيله في(إضاءة) السبت إن شاء الله.