انتهينا في الحلقة الماضية(الخميس) إلى القول بإن نصائح د. الواثق كمير المشفقة، لم تكن ضرباً من (الطبطبة) وتطييب الخواطر، إنما جاءت من خلال التنبيه لمواطن الزلل والخلل، في النهج السياسي لكلا الحزبين الحاكمين، والطرق على الحقائق المؤلمة، وتزويدهما بالمفاتيح المهمة (للأبواب المغلقة) في علاقة الشريكين وفي علاقة كليهما بالقوى السياسية الأخرى، التي وجدت نفسها بفعل الانتخابات الأخيرة بعيدة عن مواقع صناعة القرار في (قضايا مصيرية)، لا تهم الحاكمين وحدهم، بل تهم جميع من له سهم في هذ الوطن، واليوم نضيئ -كما وعدنا- على بعض تفاصيل تلك النصائح، التي نرى فيها كما شاء صاحبها- محاولة أخيرة للنجاة بمركب الوطن من وسط هذه الأنواء والأمواج المتلاطمة التي تهدد كيانه بالتحطيم والتشظي والغرق.. نصائح تستحق أن تجد من يستمع لها ويقدرها حق قدرها، ومن ثم يضعها موضع الفعل والعمل. لكن قبل ذلك، لدينا ملاحظات سجلناها على هامش ورقة الدكتور كمير التي تحمل عنوان(طلقة أخيرة في الظلام)، والذي جاء استطراداً لورقة سابقة له بعنوان: (طلقة في الظلام) بدون إضافة (أخيرة)- نشرها في (الأحداث) في يوليو 2008م، في أعقاب مذكرة المحكمة الجنائية الدولية (يوليو 2008) المطالبة بتوقيف الرئيس عمر البشير، على خلفية إتهامات بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في دارفور، ففي تلك الورقة دعا الواثق للوقوف خلف الرئيس وفق برنامج وطني تتفق عليه كافة القوى السياسية، ويضع (الوطن فوق الأحزاب) ليكون بمثابة (المانيفستو)أو البرنامج الانتخابي للرئيس كمرشح لرئاسة الجمهورية، بحيث تقوم القوى السياسية الأخرى، وعلى رأسهم (الشريك) الحركة الشعبية- بدعمه على أساس هذا البرنامج، الذي هدفه الأساسي أن يقوم الرئيس بإكمال مهمة الانتقال السلمي للديمقراطية والتعددية السياسية، وشدد على أن هذا الترتيب لا علاقة له بالتحالفات الانتخابية لهذه القوى التي تتنافس على أساس البرامج الحزبية للفوز بمقاعد الهيئات التشريعية والمناصب التنفيذية الولائية، وعبر عن اقتناعه ويقينه حينها- بأن مجمل الظروف الموضوعية والذاتية لا تسمح بتغيير رأس الدولة، مشيراً في الوقت ذاته إلى تدافع كل القوى السياسية السودانية، المشاركة في الحكومة والمعارضة لمناصرة الرئيس في مواجهة هذا الموقف، معبرة عن قلقها من المساس بسيادة السودان، ومنبهة للتداعيات السالبة للمذكرة على اتفاقية السلام الشامل، وعلى واقع النزاع في دارفور، وعلى مجمل الأوضاع الدستورية بالبلاد، مع دعوته في ذلك الأوان- لتوسيع قاعدة الحكم لتصبح الحكومة (حكومة مشاركة وطنية).. الملاحظة الأساسية في هذا الذي أورده د. الواثق، استعادةً لورقته السابقة، إن القوى السياسية السودانية لم تعارض (كلها) كما أشار- مذكرة الجنائية الداعية لتوقيف البشير، هناك من أيدها صراحة عبر تصريحات منشورة أو متلفزة كما فعل د. حسن الترابي وحزبه المؤتمر الشعبي، وهناك من أيدها ضمناً كما فعلت بعض قيادات الحركة الشعبية بتأييدها للمحكمة والقرارات الصادرة من مجلس الأمن، وأحالت أمر دارفور إلى تلك المحكمة، وهناك من بحث عن مخارج لتحقيق العدالة لضحايا دارفور دون أن تعوق السلام، وإلى موازنة بين مقتضيات العدالة، ومطلوبات السلام، كزعيم حزب الأمة الصادق المهدي الذي اقترح قيام (محكمة هجين) أفريقية دولية- سودانية لمحاكمة المتهمين وتجنيب السيادة السودانية الاختراق الدولي، وهناك من رفض المحكمة والاعتراف بها، واعتبرها بمثابة مؤامرة تستهدف أمن الوطن وسلامته.. لكن بمضي الأيام تطور موقف الحركة المؤيد لحماية الرئيس، كما تبلور موقف الاتحادي الديمقراطي المناصر له، وتداعت قوى كثيرة أخرى لمناصرته محلياً وإقليمياً(الجامعة العربية والاتحادي الأفريقي). أما الدعوة للتعامل مع الرئيس البشير(كرئيس قومي) وليس بوصفه رئيساً للمؤتمر الوطني تحديداً، فهي دعوة قديمة دبجت فيها مقالات وأعمدة رأي كثيرة منذ توقيع معاهدة السلام، لكنها لم تجد صدى لدى الرئيس أو حزبه، ونظرت إليها قوى معينة داخل حزب المؤتمر الوطني بمثابة دعوة لتفكيك أو تفخيخ الحزب، لكن الأهم من ذلك، والذي يتصل بالمعنى العام لورقة الواثق المستهدفة تمتين الوحدة الوطنية في مواجهة أخطار الانقسام والتشظي، هو هزيمة أكبر محاولة إجماع ابتدرتها الحركة الشعبية، وتحالف الأحزاب الديمقراطية بدعوتها ل ( مؤتمر جوبا لجميع الأحزاب) والتي لم يرفضها إلا حزب المؤتمر الوطني ذاته، واعتبرها (مؤامرة) لتقويض النظام، وشن ضدها حرباً إعلامية ضروساً، وقاطعها جزئياً الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل، واقتصرت مشاركته على مبادرة من نائب رئيسه علي محمود حسنين، وبعض القيادات الوسطية، وقد استهدف مؤتمر جوبا بدعوته ل(الوطني) خصوصاً- خلق أكبر قاعدة للاجماع الوطني لمواجهة القضايا المصيرية التي تواجه البلاد من خلال الحوار لا تحالفاً ضده- كما عبر عن ذلك الإعلان الصادر عن المؤتمر في آخر شهر سبتمبر 2009، ودعا ذلك المؤتمر للحوار الوطني واصفاً نفسه بأنه (ليس بحدث أو نادٍ مغلق)، وأن مهمته التصدي للقضايا الوطنية الكبرى واستحقاقات السلام الشامل والعادل، والتحول الديمقراطي الحقيقي، والتشاور المستمر، لاسيما حول قضايا الانتخابات والاستفتاء على حق تقرير المصير، وتنفيذ بروتكول أبيي، والمشورة الشعبية في النيل الأرزق، وجنوب كردفان، والحل العادل والشامل لقضية دارفور، وفصّل ما هو مطلوب في كل تلك المحاور، وهي تقريباً ذات المعاني التي شكلت لحمة وسداة ورقة د. الواثق كمير، لكن مع ذلك تكتسي هذه الورقة أهمية خاصة لكونها دعوة ونصيحة مخلصة من مثقف وطني كبير، تصدر في وقت حاسم اشتدت فيه حاجة الوطن وأهله للاستماع لكل ناصح أمين. فالواثق يدعو للدخول في حوار جاد ومباشر بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية من جهة، والقوى السياسية المعارضة من جهة أخرى للتوصل إلى وفاق وطني وإتفاق سياسي على العناصر الأساسية (لبرنامج قومي) يفضي التنفيذ الأمين له لمقابلة التحديات التي تواجه البلاد في هذا الظرف الحرج والدقيق، وإلى توسيع قاعدة الحكم من خلال تشكيل(حكومة مشاركة وطنية) على المستويين الاتحادي والولائي، وإلى إنشاء منبر قومي أهلي (منبر مستقبل السودان) تشترك فيه جميع القوى السياسية والشخصيات ذات المصداقية المعروفة بميولها(الوحدوية الصادقة)، ومنظمات المجتمع المدني الحديث والتقليدي، كآلية لمراجعة التحديات وتحديد العقبات، كمدخل صحيح لمعالجة قضية الوحدة وجعلها جاذبة، وفتح حوار شامل حول الوحدة والانفصال، ومستقبل السودان فيما تبقى من وقت قصير، وفصّل الواثق من بعد في ملامح (البرنامج القومي) ومعنى حكومة المشاركة الوطنية، كما نصح كل الفرقاء المؤتمر الوطني والحركة الشعبية والأحزاب السياسية الأخرى- بتقديم تنازلات ليس بدافع (النبل) أو (حسن النية)- كما قال- ولكن لأن الظروف الموضوعية تقتضي مثل هذه التنازلات من أجل الخلاص الوطني.. ويظل سؤالنا قائماً وشاخصاً.. هل ستجد مثل هذه الدعوة والنصيحة المخلصة من يستمع لها أو يعمل بها؟!.