إن العيب الأوّل في موضوع الخرطوم قائم في طبيعة سطحه.. وهذا ما أدّى بأحد الرَّحالة، زوّار الخرطوم، إلى أن يقرّر أنّه ليس هناك من بقعة غير ملائمة تماماً لقيام عاصمة أكثر من البقعة التي قامت فيها الخرطوم.. أحمد كاتب الشونة. ü وفي الفصل الثاني من كتابه، تاريخ مدينة الخرطوم تحت الحكم المصري 1820 _ 1885، يقول الدكتور، أحمد أحمد سيد أحمد.. ومع تلك العيوب التي شابت موضوع الخرطوم، قامت المدينة في ذلك الموضع؛ لتغطية حاجة الحكومة الإدارية، بصرف النظر عن الحاجات الأخرى، التي يجب مراعاتها عند اختيار العواصم.. ونمت وتقدمت، وهي في موضعها، لم تتحرك، وهذا يتفق مع قول علماء تخطيط المدن من أنه (من النادر أن تنشأ مدينة بقصد أن يكون مقدراً لها مستقبل عظيم.. بل الغالب أن تبدأ المدن صغيرة متواضعة.. ثمّ يلعب الزمن دوره، حتى تأخذ الوضع الذي قُدّر لها أن تكون عليه). ü وفي الفصل الثالث من نفس الكتاب يقول:(ويرجع الفضل إلى خورشيد بك في تأسيس مدينة الخرطوم.. وقد وصفت المدينة في ذلك الوقت بأنها أكبر وأنظف من كل مدن مصر العليا، ما عدا أسيوط taylor b). ومهما يكن أمر التقدّم الذي كانت تحرزه عمارة المدينة كلّما تقدم العهد بالحكم المصري، فإنّ العيب الذي إستمرت المدينة تشكو منه، هو انخفاض سطحها، وما ينتج عنه من تجمع مياه الأمطار في المنخفضات التي تقطعه.. وكان الأهالي يستعدّون لاستقبال فصل الخريف، بطلاء منازلهم من الخارج بالزبالة، ومع ذلك فإنّ من المحتمل أن يتحوّل المنزل بعد المطر إلى بقايا بناء.. وتبدو المدينة بعد المطر، وكأنّها خارجة للتوّ من طوفان.. انتهى. ü وفي تاريخ مدينة الخرطوم، الذي أوردنا مقتطفات صغيرة منه، تسلية وعزاء للسيد والي الخرطوم، الذي أعلن عن استعدادات مبكرة لفصل الخريف .. وهذه الاستعدادات، تبدأ كل عام، منذ قيام أو نشأة مدينة الخرطوم، في التركية السابقة، والأمر لا يختلف كثيراً رغم تعاقب القرون. وأهلنا بيقولوا : الموية ما بتخلي دربها أو السيل.. والاستعدادات لفصل الخريف لا يتجاوز البتة محاولات تنظيف المجاري القديمة، وإخراج ما بها من أكياس، ونفايات، وأتربة، ووضعها بأمانة متناهية، في حافة المجرى باعتبارها ملكاً خاصاً لهذا المجرى، يفترض أن تعود إليه أو تعاد إليه!! وهذا ما يحدث تماماً.. فلا المجاري مصممة أصلاً بالسعة التي تناسب المياه المتوقعة، ولا هي مغطاة في الغالب الأعمّ، ولا هي متصلة بشبكة معيّنة لتصبّ فيها.. ولا أثر لأية هندسة، أية هندسة، من أي نوع، تحدد الاتّجاه، أو العمق، أو العرض، أو الطول، أو الميلان، هل الميلان تعبير هندسي؟ لست أدري.. فهذه لغة بناء الجالوص.. وهناك أفكار كثيرة، طُرحت من قبل، مثال أن تحفر آبار وأحواض تجميع، تنصرف إليها المياه، قبل أن تصبّ في البئر.. بدلاً عن هذه الجداول التي تسمى، مجازاً، بالمجاري، مع أنّ الجدول في الريّ الانسيابيّ معروف الاتّجاه والانحدار، وأين ينتهي، ومن أين يبتدئ.. ويقوم بتنفيذه تربال ما بيعرف الواو الضكر، بطريقة ما تَخُرّش الميَّه!! لا دَرَسْ هندسة، ولا يسبق اسمه ميم مَرّمِيَّة.. ü سيجيء الخريف بإذن الله، وستضيع كل الاستعدادات شمار في مرقه حارَّه، مثل كل عام، وستتبدّد الأموال التي صرفت على المجاري بلا طائل.. وسيخرج المواطنون، كالعادة، مع كل خريف ناجح، ليقطعوا شوارع الأسفلت لتصريف المياه، وكأن هذه الشوارع لم يخطِّطْ لها أو ينفذها مهندسون، في مجالات الهندسة المختلفة، مساحة وطرق. وأعمال ما قبل الأساس، وأعمال الأساس، ومعابر المياه الصندوقية والأنبوبية، والكباري الصغيرة، والمزلقانات، وكل الأعمال الترابية والخرسانية والأسفلتية.. لتحديد سُمك الطبقات بمختلف الموادّ.. وعرض الشارع.. والردميات، والأجنحة، والأكتاف.. ثمّ العلامات، والأرصفة، والتلتوارات، وغير ذلك من القنيَات، التي لا غنىً عنها، ومع أول رشة مطر، تظهر عيوب الهندسة جلية، فيضطر الأهالي إلى أخذ القانون بيدهم، ويفعلون ما يرونه صحيحاً، فيكسرون الشوارع التي شُيدَّت من حرّ أموالهم..ثمَّ تعود الشركات من جديد.. وتعمل من جديد، وتقبض من جديد!! وما يقال عن الشوارع، يقال عن المجاري، والكباري، والدفَّاري. ü أخي الكريم د . عبد الرحمن الخضر والي الخرطوم، وقد ألقيت عليك مسئولية، عمرها يقارب القرنين من الزمان.. ومحاولات أسلافك لإصلاحها لم تنفع، وإن لم تنقطع، والعيب الطبوغرافي لا يزال قائماً، اللهمّ إلاَّ أن(نَهِدْ) بيوت الخرطوم كلها، ونعملها ردمية، ثم نبني فوقها، أو نحو ذلك من الأفكار البائسة.. فلا تحزن أخي الوالي، ولا تبتئس، فهنالك فرصة لبناء عاصمة جديدة كلياً.. فقد تنقلت العاصمة تاريخياً من سنار، إلى مدني، إلى الخرطوم، وكانت شندي مطروحة كموقع للعاصمة، وكذلك جزيرة توتي.. والآن حول مطار الخرطوم الجديد مساحات شاسعة.. وليست أبوجا بديلاً للاغوس ببعيدة عن الأذهان.. وإن تخارجت من الخريف، فلن تخرج من الاختناقات المرورية بأخوي وأخوك.. فقد كثرت المعالجات الجزئية بلا فائدة، فكثرة المرض للموت، وكثرة النَّقه للطلاق. ü قيل : إنّ شيخ العرب أبو سن، رأى أفندياً يتبوّل واقفاً، عكس اتّجاه الريح.. فسأله: إنت منو؟ فقال له: أنا مهندس مدينة رفاعة!! فقال له شيخ العرب:(كدي بالأول هَنْدِسْ لَنا بولك ده بعدين تعال لي رفاعة). وهذا هو المفروض..