كان الأطفال في زمن مضى، يظنون أن يوم القيامة هو يوم الضرب بالسياط !! وتوهموا أن العقاب .. أي عقاب .. هو ضرب بالسوط، أو البسطونة، أو فرع النيم الذي يلهب المؤخرات ويتقطع على الظهور ! أجسادنا الغضة الصغيرة لطالما تعرضت للضرب المبرح، والجاني لم يكن سوى قلة من المعلمين، ائتمنهم آباؤنا علينا، فسامونا العذاب، والإرهاب، دون شفقة، ودون وجل مما يفعلون ! طفولتي الباكرة كانت على شقين، شق في خلوة الفكي الحسن، بحي السكة الحديد بالخرطوم، وشق في المدرسة الأولية بأحد الأحياء الشعبية جنوبي حي السكة الحديد. خلوة الفكي الحسن كانت روضة من رياض التربية، درسنا فيها القرآن وعلومه، وارتشفنا منها أغلب أجزاء القرآن حفظا وتجويدا. كانت الخلوة مكانا راقيا، صحيح أن (أم سعد الله) .. تلك الآلة الخشبية التي كانت تربط عليها الأرجل أثناء العقاب .. صحيح أنها كانت موجودة، لكن وجودها كان للردع والترهيب، ولم أشاهد أحدا من أقراني قد تعرض للعقاب بها، بل لم أشاهد الفكي الحسن، رحمه الله، يضرب أحدا منا قط، ولعل الرحمة العظيمة التي كانت تملأ جوانحه، خصوصا وأن من أقراننا في الخلوة وقتذاك ابنه (خضر)، وابنته (عرفة) .. لعل تلك الرحمة .. جعلتنا في مقام ولده وابنته، فأخلص في أداء واجبه تجاهنا، لنحمل له بقية العمر كل الحب والاحترام والتجلة والتقدير. الشق الثاني من الطفولة الباكرة كان في المدرسة الأولية، حيث كان يديرها(وحش) في ثوب معلم، رجل يبلغ المترين طولا، يزمجر كالرعد فترتعد أوصال الطلاب لسماعه. لا يعرف شيئا اسمه الرحمة، ولا يحس بأنه يتعامل مع أطفال في وداعة الحمائم. الرجل كان ينتهز الشتاء، حيث البرد القارس، والدماء المتجمدة في أطرافنا الغضة، فيهب إلينا لتسميع جداول الضرب الحسابية، ويزأر سائلا عن ضرب رقم في رقم، فتطير الإجابات رعبا عن أدمغتنا الصغيرة ، ليكشر بابتسامة وحشية، ويطلب من معظمنا الخروج من مقاعدنا، لنصطف في طابور العقاب القاسي، حيث يلهب سيف المسطرة ظهور أيدينا الرقيقة، وتتقطع فروع النيم على أجسادنا دون قلب يعطف، أو ضمير يردع. أجزم أن معظم الفاقد التربوي في جيلنا .. كان بسبب وحوش سلكوا مجالات التدريس في غفلة من الزمن، ليفر الطلاب من المدارس، ويفشلوا في تحصيلهم .. فيضيع مستقبلهم دون ذنب جنوه ! لا أعرف ما حدث للوحش، لكنني أردد كلما تذكرت الشيخ الحسن : (جزاك الله عنا كل خير)، وأردد كلما تذكرت الوحش : (غفر الله لك ما فعلته فيما ائتمنك آباؤنا عليه) !