لا يزال المخلصون من قادة الرأي فينا غارقين منذ عقود طويلة في طرح المشروعات الحضارية التي يعتقدون أنها ستخرج الأمة من مشكلاتها المتأسنة. وقد كاد يحصل لدى الناس تشبُّعٌ من الحلول والمقترحات النهضوية، وشارفوا حافَةَ اليأس والإحباط! وما دمنا في سياق«أسئلة النهضة»؛ فلنطرح سؤالاً حول الحلول والمشاريع التي قدمت: لماذا نملك قدراً هائلاً من المشروعات والمقترحات والحلول لكل أدوائنا ، ونملك مع ذلك أضعف نتائج على الصعيد العملي؟! لعل من أخطر أدوائنا القديمة الاستسلامَ للَّحظة الراهنة غير آبهين بما يأتي به الغد. إن القرآن الكريم حين أمرنا بإعداد العدَّة كان يستهدف ، ضمن أهدافه ، إخراج الأمة من ضغوطات اللحظة الحاضرة؛ لتنفتح لها آفاق المستقبل؛ والتخطيط والتنظيم في حقيقة الأمر يعنيانِ الحصول على شيء من هذا؛ حيث إنهما يساعدانا على توظيف إمكاناتنا الحاضرة في مشروعات تستهدف تحسين أوضاعنا في المستقبل. وهذا يستوجب ألا نهدأ حين يتاح لنا الهدوء، ولا نغفل في أيام الرخاء. وهذا ما تفعله الدول العظمى والأفراد المتفوقون.وقد أثبتت كل الأحداث التي وقعت في العقود الماضية ولا تزال ! أن أعداء هذه الأمة ومنافسيها يعتمدون في الكيد لها واستغلالها على آفَة النسيان لديها، وعلى كون تحركاتها لا تنبثق من رؤيتها للمستقبل، وإنما من مواجهة مشكلاتها الحالَّة.ولذا .. فإننا أصبحنا ألعوبة في أيدي الآخرين. إن كثيراً من مشكلاتنا الفردية والجماعية ناشئ من قصور في المفاهيم لدينا . فنحن كثيراً ما نظن أن توفير أكبر عدد ممكن من الأفكار والرؤى والأطروحات يكفي للإصلاح والتقدم. ومع أن مثل هذا شرط لا يستهان به ، فإنه ليس الشرطَ الوحيد. فنحن ، إذا عمقنا النظر في تجاربنا وفي تجارب الأمم من حولنا، نجد أن أكثر ما يرتقي بالأمم أمران : النماذج والمؤسسات. فعقول جمهور الناس تميل إلى عدم تصديق ما يطرح من أفكار نهضوية وعدم الاهتمام به والتفاعل معه ما لم تره مجسَّداً في نموذج بشري، فينتقل ما كان يُنظر إليه على أنه مثاليٌّ جدًّا أو صعبُ التحقيق من حيز الخيال إلى واقع الممكن الذي يقع ضمن الوسع والطاقة ، ولعل هذه هي الحكمة من وراء عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وتجسيدهم ما يدعون إليه في سلوكهم . وهكذا المسلمون اليوم..يحبون أن يروا نماذج راقية تتحرك على الأرض في كل اتجاه من اتجاهات الحياة : العلم والخُلُق ، والإدارة والسياسة، والإنتاج والعلاقات الاجتماعية .. وبقدر ما يتوفر من نماذج راقية؛ يندفع الناس في طرق الصلاح والإصلاح ، وإن لم يكونوا مفكرين أو مثقفين أو فقهاء! أما المؤسسات؛ فإنها تشكل الأُطُرَ لتخريج مثل هذه النماذج القائدة، كما أنها تنسق الجهود المبعثرة، وتتيح لكثير من المشروعات مواصلةَ الأداء والعطاء فتراتٍ طويلة. وإن في شباب الأمة الكثير والكثير من الرغبة في الخير والعمل، ولكنهم لا يجدون المؤسسات التي ترسم الأهداف، وتمهد الطريق، وتوفر لهم التدريب، وتعينهم على أنفسهم.