في مقالنا السابق، قلنا أن مشروع النهضة وبعث الأمة في السودان، لا يمكن أن يتحقق إلا إذا توفرت له جملة من الركائز الرئيسية، أهمها: الديمقراطية والإصلاح الديني وحل قضايا القوميات والتعليم والتنمية والثقافة. وفي ذات المقال، ناقشنا ركائز الديمقراطية والدين والقوميات، ونواصل اليوم مناقشة بقية الركائز: 3- لعلها بداهة، الإشارة إلى أن التعليم يمثل مرتكزا أساسيا من مرتكزات المشروع النهضوي. وبالنظر إلى أن الإنسان هو مركز وجوهر المشروع النهضوي، فإن التعليم، أو محاربة التجهيل، هو اللبنة الأولى لبناء هذا الإنسان، وهو الضرورة الحتمية إذا ما أردنا فعلا تحسين الحياة. إن التعليم يوفر إجابة شافية للمسألة الملحة والمتجددة في عملية النهضة، أي زيادة درجة الوعي وتوسيع الأفق والحساسية تجاه دور الفرد ونظرته للآخر ولما يدور حوله من أشياء. كتب المفكر السوداني عبد العزيز حسين الصاوي: “نأخذ قضية اصلاح النظام التعليمي بحكم أولويتها القصوي، وبسبب الدور المحوري والبديهي الذي لعبه انهيار نوعية التعليم بكافة مراحله في تسهيل وصول حركة الاسلام السياسي الي السلطه والبقاء فيها رغم اخفاقاته المدويه، عندما أضحي الخريج رصيدا للفكر المتخلف بدلا من العكس، لاول مره منذ الاستقلال". (سودانايل، أبريل 2003). وإذا نظرنا إلى ما تحتاجه البلاد من خبرات وتخصصات تسهم في مجالات التنمية الأفقية والرأسية، سنجد أن معالجة أزمة التعليم، وفي الحقيقة وقف إنهياره، تطرح نفسها بقوة. وبالطبع، نحن لا نعني الإستمرار في نفس نهج التفكير الذي سار عليه المستعمر: نحتاج إلى عدد من الكتبة وعدد من الأفندية ومجموعة من مسيري دولاب الدولة..الخ. المشروع النهضوي يتطلب ثورة في التعليم تنتج أناسا يتبنون مناهج التفكير الناقد، ويتصدون لحل المعضلات عبر مناهج المشاركة مع الآخرين، وعبر الإنفتاح على العالم، أناسا متشربين بمعاني التعايش السلمي، والتلهف لمعرفة ثقافة الآخر، ولا يتلاعبون بالمبادئ والقيم الإنسانية. ونقطة البداية هي الثورة على ما هو قائم من مناهج ومكونات النظام التعليمي الحالي الذي دمرته الإنقاذ تدميرا، بحيث، وللأسف، أضحت تفرخ السطحية والخمول الذهني واللامبالاة والخضوع للغيبيات. ونقولها بكل وضوح لأهل الإنقاذ: إن البلد التي تصبح طاردة للمعلم، معلم مراحل الأساس أو الجامعة، لن تحقق أي مشروع نهضوي، وإنما ستشيد وكرا يعشعش فيه التخلف والجهل والإنحطاط العام. 4- المشروع النهضوي لا يمكن أن يتجسد ويستقيم بدون تنمية مستدامة تطال كل الميادين وكل البقاع. والتنمية الحقيقية والمعنية بمشروع النهضة، لا تعني مجرد بناء الكباري الطائرة والمولات الضخمة والعمارات الشاهقة، واللهث وراء عائدات تصدير المواد الخام...الخ. بل هي، وبإعتبارها، ركيزة أساسية من ركائز مشروع النهضة وبعث الأمة، تتطلب في المقام الأول تفجير موارد البلاد وتطوير قدراتها، خاصة في مجالات الصناعة والزراعة، والعمل على ربط البلاد بحقائق العصر، وفي مقدمتها الثورة التكنولوجية، وتوسيع التعاون الاقتصادي والعلمي والتقني مع البلدان الأخرى بما في ذلك الإقدام الجريء على جذب روس الأموال ومصادر التمويل ومنجزات البلدان المتطورة. وكل ذلك من أجل خلق المجتمع الصناعي الزراعي المتقدم في السودان، كما أشار عن حق الشهيد عبد الخالق محجوب في مخطوطته “حول البرنامج" والتي كتبها في معتقله في سلاح الذخيرة وسربها قبل أحداث يوليو 1971. أما الهدف الرئيس فهو إرساء دعائم الأسس الإقتصادية الواجبة والضرورية لتحقيق العدالة الإجتماعية. فإن أي مشروع، يدعي النهضوية والتنموية، ويقوم على إستشراء الفساد والنشاط الطفيلي وسيادة القيم الإستهلاكية، والتوزيع غير المتساوي وغير المتوازن لموارد وثروات البلاد، ولا يضع العدالة الإجتماعية كهدف، هو في وادي والنهضة وبعث الأمة في وادي آخر. إن التحدي الرئيس الذي يواجه الدعاة الحقيقيين والصادقين لمشروع النهضة، هو كيفية تحقيق المعادلة الصعبة في التقدم الإقتصادي والقبول بالتحولات التي تجري في البناء الإجتماعي والتي تطال علاقات الإنتاج، وفى نفس الوقت الدخول في عملية ديمقراطية حقيقية تسمح بالتداول السلمى للسلطة. بمعنى، كيفية الدمج بين السياسات الاجتماعية والسياسات الاقتصادية، من حيث تأمين الضمانات الاجتماعية والخدمات العامة، وارتفاع معدلات النمو والتوظيف والاستقرار النقدي النسبي، وزيادة مستوى المعيشة، وترسيخ حالة ديمقراطية، يكون فيها للفرد دور حقيقي. بهذا الفهم، نقترب من نموذج “الدولة التنموية الديمقراطية" أو “دولة الرفاهة التنموية" والذي يرفض الهيمنة الكاملة لنموذج إقتصاد السوق. وهنا تجدر الإشارة إلى أن العديد من دول أمريكا اللاتينية أخذت بهذا الخيار كنقطة إنطلاق في بناء مشروعها النهضوي التنموي. 5- وحتى إذا إفترضنا توفر وتحقق الديمقراطية والإصلاح الديني وحل قضايا القوميات والتعليم والتنمية، بإعتبارها من أهم الركائز الأساسية لإنجاز المشروع النهضوي لبعث الأمة، فمن الصعب تصور نجاح هذا المشروع بدون توفر وتحقق ركيزة خامسة، لا بد منها ولا غنا عنها، ونقصد بها تخلق وتشكل المشروع الفكري الثقافي المصاحب لتلك الركائز. كتب الدكتور ماهر الشريف: “أن الأزمة التي تواجهها المجتمعات العربية قد نجمت، في الأساس، عن أن التحديث الذي شهدته هذه المجتمعات على مدى قرنين، ظل تحديثا برانيا، لم يطال الميدان الفكري الثقافي، بمفهومه الواسع، أي الحضاري، الأمر الذي حال دون تحوله إلى حداثة جوانية. أما السبب في ذلك فيعود، في المقام الأول، إلى إنتكاسة مشروع النهضة والتنوير، الذي كان يهدف إلى تحقيق مثل هذا التحديث الفكري الثقافي..."(مصدر سابق). في السودان، وعلى الرغم من القضايا المتشعبة التي ظل يفرزها الصراع السياسي، فإن المردود النظري والثقافي كان دائما دون المستوى المطلوب، أو دون المتوقع. وفي الحقيقة، فإن الإنفصام بين القاعدة والقيادة، بين الفكر والممارسة، وكذلك التعصب فى الدفاع عن المصالح الحزبية...، كلها من مغذيات العقلية التي لا يمكن ان تستفيد من الاختلاف والتنوع، الذى يوفره واقع التعدد في البلاد، لبلورة صراع/تلاقح فكرى ثقافى، ليس فيه منتصر أو مهزوم، على عكس ما يرى د. نافع، وإنما تنتج عنه خصائص ثقافية مشتركة تفتح بوابة الإعتراف بالآخر لدخول فضاءات التعايش السلمي المستدام، والذي أيضا بدونه لا يمكن إنجاز أي مشروع نهضوي لبعث الأمة. ان عدم ايلاء الجهد النظري والفكري الأهمية التي يستحقها، ينعكس سلبا على العمل السياسي وعلى العلاقة بين السياسي والفكري، بين الثقافي والسياسي. بمعنى، يظل الفكري والثقافي خاضعا لمستلزمات العمل السياسي اليومي أو مبرراته، فيفقد دوره وتميزه، ويصبح تابعا وليس شريكا أو ناقدا. ومن زاوبة أخرى، تجدر الإشارة إلى أنه إذا نظرنا إلى قضايا الديمقراطية والإصلاح الديني وحل قضايا القوميات والتعليم والتنمية والثقافة، كوحدات منفصلة عن بعضها البعض، سنصاب بالعجز عن مواكبة الحياة دائمة التحرك، وملاحقة العالم دائم التطور والتجدد من حولنا. وفي ذات الوقت، إذا فكرنا في ربط هذه الوحدات بأي “جنزير" آيديولوجي سنصاب بالعجز في مواجهة الذات الحرة القادرة على تبين الخط الناصع. هكذا، نختتم مجموعة المقالات التي ناقشنا فيها ما طرحه الدكتور نافع في حواره مع صحيفة “السوداني"، عدد الأحد 5 أغسطس 2012، عندما قال: “نحن في مشروع نعتقد أنه مشروع فكري ونهضوي وبعث أمة، لا يمكن أن نترك بغاث الطير أن ينتصروا عليه“! وهو قول، في تقديرنا وكما ذكرنا من قبل، يلخص كيف يفكر قادة الإنقاذ تجاه الوطن والمواطن. وعلى العموم، بلادنا تقترب من إكمال ربع القرن وهي تحت حكم وسيطرة الإنقاذ. لكنا، لم نر أو نلمس مشروعا فكريا ونهضويا لبعث الأمة، طرحته الإنقاذ ونفذته، ولو في بداياته أو في خطوته الأولى. بل شهد ربع القرن هذا، مشروع تمكين الخلصاء والمنتمين لحزب الإنقاذ على حساب الكفاءة وحياة أبناء الوطن من خارج التنظيم، مشروع الدمار الإقتصادي غير المسبوق والذي طال مشاريع تنموية أساسية كان مقدرا لها أن تتقدم وتتطور، كمشروع الجزيرة والسكة حديد والنقل الجوي...وغيرها، مشروع الخروج الكبير للآلاف من صناع المستقبل أصحاب الكفاءات الذهنية والسواعد القوية وإستقرارهم في دول المهجر، مشروع قمع الآخر وسبادة مفردات من نوع “بيوت الأشباح"، مشروع إستدامة محرقة الحرب الأهلية وتقسيم البلاد، مشروع ري بذور العنصرية والتعصب العرقي بالدماء، مشروع التجهيل وتسييد الخرافة والدجل.....، إلى غير ذلك من المشاريع التي لا تمت إلى الفكر أو النهضة أو بعث الأمة بأي صلة. .....مشروع.......، ومشروع.......!!! الميدان