قبل أن تشتجر الأقلام، وتتطاول الألسن، حول حادثة هروب المحكوم عليهم بالإعدام، في قضية غرانفيل، دعونا نقرّ حقيقة أن الحدث قد وقع بالفعل، وهو يقع كذلك في أي زمان ومكان في أية دولة في العالم.. وهذا لا ينفي التقصير.. فبمجرد الخروج، أو الفرار من السجن الاتّحادي(كوبر) أكبر السجون في بلادنا، وأعرقها، وأكثرها انضباطاً، والسجون منوط بها تنفيذ الأحكام القضائية، يعتبر تقصيراً كبيراً، يوجب محاسبة ناجزة وصارمة؛ لأنه يعدّ تلاعباً في الحقوق، وانتقاصاً من هيبة الدولة وأحكام القضاء النزيه الحرّ المستقلّ.. وكل سجون الدنيا فيها ثغرة للفرار، هذا إن كان الأمر محاولة فردية، فالنفس تنزع للحرية، ويملؤها الخوف والجزع من مواجهة الموت المحتّم، وهذه غريزة بشرية؛ لذا فإن المحكوم عليهم بالإعدام تشدّد عليهم الحراسة، وتضرب لهم القيود الحديدية، وتفرد لهم الزنازين، وهي في سور داخل سور يقوم عليها أفراد غلاظ شداد. وقد نفهم أن يفرّ سجين من حارسه، أثناء ترحيله من نقطة إلى أخرى. لكن هروب سجين من الأبواب أو الحيطان من السجن الاتّحادي، يدخل في عداد المستحيلات لمن يعرف سجن كوبر الاتّحادي، وقد دخلته عدة مرات (في إطار العمل) واطّلعت على الكثير من تفاصيله ولوائحه ونظمه.. تقول قصة الهروب الكبير بأن المحكومين الأربعة، نزعوا أربعة بلاطات من أرضية الغرفة، وحفروا بعمق ثلاثة أمتار.. ثم حفروا نفقاً بطول أربعين متراً، أوصلهم مباشرة إلى شبكة الصرف الصحي القديمة، التي قادتهم إلى خارج الأسوار، قبالة غرفة استقبال الزوار، خارج حوش الطوارئ، الواقع في الجهة الشمالية من السجن، والتي تقع على الشارع الرئيسي، أو هو على بضعة أمتار منها، وقد استقبل المحكومون يوم الثلاثاء زيارات عديدة في النهار وكان الهروب ليلاً !! وتتداعى الأسئلة تترا.. كيف عرف هؤلاء خريطة السجن التي صمموا عليها خارطة الطريق إلى الهروب؟.. ومن أين جاءوا بجوالات السكر الفارغة، التي ملأوها بالتراب الناتج من حفر النفق؟.. ومن أين جاءوا بأدوات الحفر التي حفروا بها البئر والنفق؟.. وكيف سمحت لوائح السجن بوضع المحكومين الأربعة في غرفة أو زنزانة واحدة؟؟ وكيف كانوا في القسم «ج» (معاملة خاصة) منذ اعتقالهم وحتى هروبهم ؟؟ وهل كان القيد الحديديّ مضروباً عليهم، حسب الإجراء المتبع في حالة المحكومين بالإعدام؟؟ وهل أجرت أو تُجري إدارة السجن التفتيش الروتيني للزنازين والعنابر؛ للتأكد من خلوّها من الممنوعات، كالأمواس، أو الحبال، أو السلاح الأبيض، أوالعقاقير، أو الدخان، أو الخمر، وخلاف ذلك من الممنوعات؟ ناهيك عن الحفر وخمّ التراب؟؟ وزنازين السجن مصمّمة بحيث أن أبوابها لا تحجب أي جزء من أركانها الأربعة، فكيف يمكن أن يتخفى شيء فيها؟ سلسلة من الأسئلة تقودنا إلى السؤال الكبير .. هل يصلح موقع «سجن كوبر» وسط الأحياء السكنية، والشوارع الرئيسية، في قلب العاصمة المثلثة، كمكان للإصلاح والتهذيب؟؟ فالتأديب والعقوبات والضبط والربط، يتطلب بيئة أكثر عزلة، وأعمق غوراً، وأقلّ اضطراباً. ثم هل أثر الدمج الذي جمع الشرطة، والسجون، والمطافئ، وحرس الصيد والجمارك، في الشرطة الموحّدة، بإداراتها الجديدة، ومسمياتها «المودرن» فالبوليس شرطة، والسجون إصلاح.. والمطافئ دفاع مدني.. وحرس الصيد حماية الحياة البرية، في ضياع التخصص والفنيات التي كانت تزين بالعلم كل ضابط في مجاله فقد أصبح الجميع شرطة بالزيّ الموحد، والأقدمية الواحدة، والامتيازات المشتركة، والترقيات والعلامات.. وضاعت كلية ضباط السجون ودوراتها.. وتضاءل الإقبال عليها، حتى ماتت وذهبت كشوفات المعاش بالكثيرين المقتدرين من ضباط السجون، وهذه سنة الحياة، ولكن الهروب الكبير هزّ قناعتي بكفاءة من يقفون على أمر السجون الآن، فإما أنهم غير مختصين، أو غير مهتمين، أو غير قادرين، أو هم محبطون لسبب لانعرفه!! وهل الدمج عمل دَمِج ..؟ دي بالإنجليزي.. يعني إتلاف !! وهذا أمر يترك الحليم حيران.. ولا أريد أن أهاجم أحداً، أو أسيء إليه، وأتمثّل بقول أبو الأسود الدؤليّ: وإني ليثنيني عن الجهل والخنى ü وعن شتم أقوام خلائقُ أربعُ حياءٌ ، وإسلامٌ ، وشيبٌ ، وأنّني ü كريمٌ ومثلي قد يضرُّ وينفعُ وكنت أرجو للشباب الأربعة النجاة من حبل المشنقة بالاعتذار، للظفر بالعفو، فحفظ النفس أول مقاصد الدين.. ثمّ الدخول معهم في تصحيح المفاهيم، التي يدعو لها دين الله الحق، بعيداً عن الغلوّ والشطط.. وها هو الشيخ أبوزيد يعرض وساطته، وسينضمّ إليه غيره من العلماء والفقهاء. وحتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً .. فإن الدولة برمّتها، في نظر الدول الغربية الظالمة، دولة فاشلة !! وأنّ القضاء فيها غير قادر!! وأن الشرطة غير مؤهلة !! وها نحن نهدي إليهم الدليل تلو الدليل؛ ليصدق فينا ظنّهم.. وإنّ الظنّ لا يغني عن الحق شيئاً.. ولتقل أمريكا ما تريد..فهذه حقائق عارية.. والهاربون في أعناقهم دم الشرطيّ الشهيد.. وحكم القضاء في ضحاياهم الاثنين، السائق وغرانفيل، بالإعدام.. فيا هاشم إذا غضبت فأنظر إلى السماء فوقك، وإلى الأرض تحتك، ثم أعظم خالقها، واحكم بما أراك الله، ولا تكن للخائنين خصيماً.. أجرِ التحقيق . وافصل من الخدمة من شئت.. واخفض رتبة من شئت.. واحبس من شئت.. وحاكم من شئت، وكل ذلك بالحق والعدل.. فالأرزاق بيد الله فمن يفقد وظيفته بتقصير منه، أو ظلم وقع عليه، فذلك تقدير العزيز العليم، وما الأرزاق عن جلد ، ولكن ü بما قدر المقدّر للنفوسِ ولست ، وإن عدمت المال يوماً ü بمدني النفسِ للطمع الخسيسِ ولا متصدّياً لجزا لئيم ٍü صلودِ الكفّ منانٍ عبوسِ وهذا هو المفروض