أعتقد أنه لا جدوى من رفع لافتات الإيمان بالديمقراطية، ما لم يقترن ذلك بخطوات عملية تؤكد جدية السعي لتفعيل هذه المطالبة على أرض الواقع، من خلال خطوات عملية لإثبات قدرة الأحزاب وجميع القوى، والنخب السياسية، والفكرية، علي أن تقدم نفسها بصورة جيدة كنموذج يحتذى به في الفهم والإدراك لمعني وغاية الديمقراطية. إن أكبر الضمانات لاستمرار تطورنا الديمقراطي تكمن في تفعيل الحياة الحزبية في الشارع السياسي، لتأكيد قيم الحرية والتعددية، والحوار والمنافسة، حتى لا تنتكس يوماً مسيرة الديمقراطية، ونخسر ما حققناه. ولو أن الأحزاب السياسية أعادت بناء هياكلها لأمكننا في النهاية أن نواجه معاً مشكلة السلبية، والعزوف عن المشاركة السياسية، التي تهدد الجميع، وتفرض حالة من الركود علي نشاطنا السياسي برمته، وإذا قاد حزب مبادرة جدية نحو إعادة بناء كوادره وتفعيل مشاركة أعضائه في استكمال هياكله، فإن الأحزاب السياسية الأخرى مطالبة بأن تتخلص من حالة الشك الدائمة والمستعصية، وأن توحِّد صفوفها وتتخلى عن انقساماتها عبر اختيار حر تكون الكلمة فيه للأعضاء، في إطار فلسفة عمل واضحة تبرر وجود تلك الأحزاب على الساحة السياسية. وربما تخطئ الأحزاب السياسية القائمة الآن في خطابها السياسي، حين يدور ذلك الخطاب حول محور واحد هو تسفيه كل إنجاز، والنيل من كل مجتهد في الخطأ والصواب معاً، فاستمرار هذه النبرة في خطاب الأحزاب يفقد الجميع الثقة في كل شيء، بما فيها تلك الأحزاب وقياداتها، ويصبح من العسير إيجاد مناخ للتعددية والمنافسة السياسية، ومن ثم تفقد تلك الأحزاب الهدف من وجودها. فالعمل على فقدان الثقة لن ينال حزباً بعينه، ولكنه في النهاية سوف تنعكس آثاره على الجميع، وسيتيح الفرصة لمستثمري السخط العاملين على تزييف الوعي العام، تحقيقاً لأهداف أبعد ما تكون عن مصلحة الوطن والمواطن. هذه تذكرة مجانية من جانبي أوجهها للأحزاب، لكي يدركوا الحقيقة التي لم تغب عنهم، فالأمر يخصهم جداً. إن المواطن لا يؤيد أي حزب إلاَّ إذا أيقن بأن ما يهدف إليه في كل خطوة من الخطوات يستهدف المصلحة العامة، ويتم من خلال إجراءات سليمة، ومن الخطأ أن يتصور أي حزب أن الناس يمكن أن ترضي عنه لمجرد الاطمئنان إلى أن نياته ومقاصده شريفة فقط ! ولعلنا نتفق جميعاً على حقيقة أساسية هي أن الناس منذ الأزل لا يستطيعون الاستمتاع بحبهم وولائهم لأحزابهم، إذا نما شعور بأن هناك قلة تنعم بامتيازات خاصة، أو حقوق البعض متوقفة على أهواء الآخرين، أو إذا كان منهج الحزب ينتصر لفئة معينة. وأي حزب يبحث عن النجاح الدائم، وليس المظهري أو المؤقت، هو الذي يبدو في خطواته وقراراته أنه يتحرك تحت مظلة من الالتزام الأخلاقي مع المجتمع، وبقدر صيانته للحقوق تكون تصرفاته صحيحة، أما إذا أدار ظهره لهذه الحقوق أو حصر نفسه داخل نطاقها، سقط عنه حقها في أن يستمتع بتجاوب الناس معه. وليس يكفي أن نكرر القول بأن الديمقراطية هي الأحزاب، وأنه لا ديمقراطية بدون أحزاب، وإنما ينبغي أن نقول إنه لا يمكن الحديث عن ديمقراطية حقيقية لمجرد وجود تنافس سياسي بين الأحزاب. وإنما الديمقراطية الحقيقية تبدأ بوجود ديمقراطية ذاتية داخل الأحزاب نفسها، لأن الديمقراطية هي في الأساس عنوان لبناء سياسي له مواصفات واشتراطات، أهمها حرية المواطن وحقه في التعبير عن رأيه، فإذا كانت هذه الحرية غائبة وهذا الحق مهضوماً داخل البناء الحزبي، فكيف يمكن الرهان على قدرة هذه الأحزاب علي الالتزام بالديمقراطية إذا وصلت إلي سدة الحكم؟. وإذا كنا نقول- والقول صحيح- بأن المرحلة الحالية التي يعيشها السودان تمثل تحولاً تاريخياً في مسيرة الحياة الديمقراطية، فإن من الضروري أن تجري الأحزاب- بمبادرة ذاتية من داخلها- تحولات وتغيرات تتلاءم مع الواقع الجديد على سطح السياسة السودانية. إن أي حديث عن الديمقراطية والحلم في تداول السلطة وجميع المطالب والطموحات التي تتغنى بها الأحزاب، لا يمكن أن تجد لها صدى ومردوداً لدى الرأي العام، ما لم يقترن ذلك بإشارات واضحة تؤكد حدوث تغيير في فلسفة البناء الداخلي للأحزاب، وبما يؤكد أنها مؤهلة لكي تبدأ بنفسها في تطبيق الديمقراطية من داخلها، حيث تصبح عناوين الديمقراطية محسوسة وملموسة لدى الناس، وليست مجرد أطر وتشكيلات حزبية على الورق، أو بضعة مقاعد في البرلمان، أو مجموعة صحف تنطلق بالصياح والصراخ فقط! وإذا كانت معظم الأحزاب تبرر سبب عزوف الناس عن دخول الأحزاب بوجود قيود ومحظورات تنسبها إلي الحكومات التي تعاقبت على البلاد، فإن ذلك - حتى لو كان صحيحاً- لا يمثل سوى جانب محدود من أسباب العزوف الذي يرجع لأسباب كثيرة، أهمها مناخ السلبية الذي واكب سنوات غياب الحياة الحزبية، ثم أنه بعد عودة الحياة الحزبية لم تقدم الأحزاب أدلة صادقة علي إيمانها الذاتي بالديمقراطية داخلها وإنما علي العكس كان واضحاً أن سياسات وتوجهات كل حزب تقررها حلقة ضيقة من القيادات العليا التي لا تريد من الأعضاء سوى السمع والطاعة. إن من غير المعقول أن تظل معظم الأحزاب بعيدة عن الحد الأدنى من امتلاك القدرة التنافسية التي تمكنها من أن يكون لها وجود داخل البرلمان، ولو بعضو واحد منتخب على الأقل، بل إن بعض هذه الأحزاب لم يسبق لها أن فكرت في خوض حملة انتخابية، وطرح برنامج يكشف عن رؤيتها في كيفية التعامل مع القضايا الداخلية والخارجية، لأن بعض الأحزاب غارقة في مشاكلها الذاتية المتمثلة في صراعات وانشقاقات حول المناصب والمواقع القيادية، والسعي لتعويض هذه الصراعات، بإظهار العضلات في الصراخ والصياح والمزايدة فقط!.. ويا أيتها الديمقراطية المصنوعة بمقياس أحزابنا، كفي عبثاً وتلاعباً بعقولنا ومشاعرنا، لأن الظرف لا يحتمل مثل هذا الهراء!.. وخلاصة القول..(الجمل ما بيشوف عوجة رقبتو).