قبل أعوام كنا جلوساً أمام «رصيف» إحدى الصحف، وهذه عادة قديمة معروفة عند الصحفيين، خصوصاً إذا صادف وجود صحيفة أو صحيفتين في مكان واحد، مثل ما يحدث الآن في «الخرطوم شرق»، أو «شارع الحريّة»، حيث تتجاور الصحف، ويلتقي الصحفيون، بعضهم البعض، في «ونسات» و«دردشات» جانبية، مثل موضوع القصة التي أمامكم الآن.. المهمّ، كنا جلوساً، وبجوارنا «صاحب» بقالة، والذي سأل فجأة أحد الزملاء الصحفيين: أنت مرتبك كم؟ وعندما أخبره بالرقم، قال له: (تعال اشتغل معاي في دكاني، بدّيك ضعف مرتبك في الجريدة)، في هذه اللحظة طلع الدمع في عروقي، وقلت له: مثل هذا المرتب يمكننا أن نتحصل عليه ببيع جركانات «فاضية» في سوق ليبيا، ولكن القصة أكبر من ذلك، نحن أصحاب رسالات، وهذا الصحفيّ سيتوقف عنده التاريخ ذات يوم، ولكنّك ستذهب أدراج النسيان، كغيرك من الحرف والمهن الأخرى..!! ولا أتذكّر بقية الحديث الذي جرى!! ولكنني أمس، ونحن نشيّع أستاذنا الراحل، سيد أحمد خليفة، إلى مثواه الأخير، في مقابر الصحافة، في هذه اللحظات، تأكّدت من «صدق» كلماتي، وتقديراتي لمدى الاحتفاء والتقدير الذي تجده الصحافة في الحاضر والواقع والتاريخ!! لقد عكس الحشد الكبير، والتدافع الجماهيريّ، رسمي وشعبي، مدى المكانة التي حظي بها فقيد الصحافة الكبير، سيد أحمد خليفة، الذي أعطى هذه المهنة كل ما تحتاجه من شجاعة، وإقدام، وإخلاص، وصوت، فكانت المحصّلة كل هذا الوفاء!! وكل هذا الحب.. نعم سيذكرك تاريخ الصحافة السودانيّة، والذي هو تاريخ الوطن، وسيكتب اسم سيد أحمد خليفة بأحرف ذهبية، وسيحفظ له عصاميته وتفانيه في خدمة المواطن وقضاياه، وهمومه، ودفاعه المستميت عن مبادئه، وأفكاره. عندما جاءنا في (آخر لحظة) وكانت تعيش في مرحلة التأسيس، أبدى كل مشاعر الترحيب والاهتمام بها، حتى الوصول لمرحلة التوأمة بين الصحيفتين، وعندما أبديت له ملاحظتي، بأنّ هذا لا يحدث في سوق الصحافة، قال لي: يا ولدي أنا عيني مليانه، أوّل ما فتّحت لقيت درج دكان أبوي مليان قروش، وعندها فهمت سر العبارة التي كان يقولها لي مصطفى أبوالعزائم: «ماشي اتونس مع أبو السيد».!! نعم سيذكر التاريخ مجاهدات أبو السيد، وترسيخه، و«كسره» للكثير من «قواعد» ونمطيّة الصحافة، سواء كان ذلك في التحرير، أو الإخراج، وأتذكّر هنا ما كتبته بإعجاب عن مانشيت الوطن، والذي خرج ذات يوم، يقول: «الطهار طلع كضاب»!! وهذه هي قمّة المعالجة للقضايا المجتمعية، ولا تذكرني هذه «الفلتة» إلاّ بالمانشيت الذي خرجت به جريدة كردفان، في الستينات، ودرسناه في الجامعة، وهو يقول: (الموية جاتكم). أليس هذا يكفي للقول بأن سيد أحمد خليفة، قد قام بكل جرأة، بكسر نمطية (البطل الحقيقي) في صفحات الأخبار، والّذي هو «الحاكم» و«المسؤول» و«السياسيّ»، الذي يتسّيد «الصحفة الأولى» بكلامه وصورته واستعاض عنه ببطل عاديّ، من غمار الناس، ولكنه بطل ينطوي على مضمون حقيقي، وهكذا كان سيد أحمد رجلاً عادياً، ولكنه «البطل» في قمة تجلياته. «إنا لله وإنّا إليه راجعون » .