إن حالة الغلاء التي تشهدها الخرطوم هذه الأيام غير مسبوقة وغير مسنودة بأي منطق وغير مستندة لأي من النظريات الاقتصادية المعروفة وهي أعيت حتى المسؤولين الحكوميين الذين حاروا في تبريرها وأصبحوا يرددون مقولة أنها (غير مبررة). هذه المسألة لا علاقة لها بالأزمة المالية العالمية التي لم تحدث في السودان ولم يتأثر بها وحده علماً بأن المسؤولين الحكوميين على أرفع المستويات كانوا يؤكدون عدم تأثر السودان بها قبل أن تتحول لشماعة لغول الغلاء الذي لا يرحم وهو يبتلع عائدات المواطنين ويخرب بيوتهم. كما ألا علاقة لها بأسعار الغذاء العالمية لأنها (الأسعار) لا تقارن بنسب الارتفاع العالمي أو الإقليمي. كذلك فهي تخرج عن إطار التحرير الاقتصادي الذي يتم بمعايير مثل سيادة المنافسة التامة، عدم الاحتكار، توفر المعايير السوقية في الإنتاج والتمويل والتسويق، الداخلية والخارجية وهي معايير لم تتوفر في الاقتصاد السوداني. اقترحنا على ولاية الخرطوم قبل حوالي ثلاث سنوات أن تقوم بإنشاء صندوق للتنمية تودع فيه (تجنب فيه) نسبة معينة من العائدات السنوية وعندما يصل الى حجم مناسب يتم الشروع في إقامة شبكة حديثة للصرف الصحي وبمواصفات عالمية، إضافة لشبكة المياه ومد خطوط الكهرباء لجميع أنحاء الولاية وتحديثها وإقامة شبكة متكاملة متعددة الوسائط للنقل والمواصلات وأن تكون نموذجاً يُحتذى من حيث التخطيط والتنفيذ ومراعاة الجوانب المحاسبية ونظم المراجعة والإفصاح والشفافية حتى لا توصم في ما تقوم به بالفساد أو المنافع الشخصية. وبالمناسبة فإن الاستثمارات الأجنبية الحقيقية التي يتم الحديث عنها، ليست ملكاً لأغبياء ليلقوا بها دون حساب ودراسات جدوى وبالتالي فإنها لن تتوفر بالشكل المطلوب دون توفر المناخ الملائم لها، ما عدا ذلك لن يكون إلا استثمارات صغيرة أو مغامرة أو ذات صفات أخرى أقلها التوجه الآيديولوجي وجميع تلك الأنواع متدنية الجدوى وعالية المخاطر. حتى في مجال المواصلات الداخلية الذي نجحت الولاية في اختراقه فان إدخال بصات النقل الداخلي للركاب يعتبر حلاً مؤقتاً لأزمة المواصلات لكن بدون إجراء معالجات جذرية للبنيات التحتية ومنها شبكة الطرق والجسور والأنفاق فإن التوسع في إدخال البصات سيصبح مشكلة قائمة بذاتها بدلاً من أن يكون حلا. تحقيق أهداف التنمية الولائية والمحلية يحتاج للفهم السليم، الكوادر المؤهلة، إدارة تمتاز بالكفاءة وبعد النظر وتغيير العقلية الاقتصادية السائدة وترتيب الأولويات وتوسيع المشاركة الجماهيرية الحقيقية، بشكل يتوافق مع الأهداف الاجتماعية التي تلبي الحاجات الأساسية للمواطنين وتجعل حياتهم إنسانية عوضاً عن حالة الضنك والأولويات المختلة التي إن استمرت فستلحق ضرراً بليغاً بالأمن الاجتماعي للولاية التي تشكل القلب النابض للبلاد ومرآتها الرئيسية. والتنمية وكفالة الحقوق والعدالة هي التي تحقق الأمن القومي والاجتماعي أكثر من الأسلحة والأجهزة مهما كان نوعها وكثرتها وقدراتها. تستهلك ولاية الخرطوم ثلثي كمية الوقود في السودان وعائداتها من الضريبة على القيمة المضافة أكبر من عائدات بقية الولايات مجتمعة مع الأخذ في الاعتبار أن معظم واردات السودان التي تفرض عليها الرسوم والتعريفات الجمركية هي واردات متوجهة معظمها الى الخرطوم وأن الدخول الكبيرة والاستهلاك النشط متمركزة في هذه الولاية، كما إن واحداً من أكثر القطاعات نمواً بعد النفط والاتصالات هو قطاع البناء الذي يتمركز في الخرطوم وبالتالي فإن ذلك القطاع يدر عائدات وفيرة من الضرائب على العقارات والعوائد، نسبة لكل ذلك بدلاً من أن تكون ولاية الخرطوم نموذجاً للتنمية الحقيقية المعافاة فإن ما يتم فيها ومنذ وقت طويل هو تنمية مشوهة تأخذ طابعاً استعراضياً بدلاً عن أن تراعي فيها الجوانب العملية والعلمية التي لا تبدد الموارد ولا تدمر البيئة ولا تتداعى في زمن وجيز وتكون مضارها أكبر من منافعها وتكاليفها غير متناهية مادياً واجتماعيا. فمثلاً من مظاهر التنمية المشوهة تكاثر أعداد العربات الخاصة (الكثير منها حكومي) ووسائل النقل الصغيرة غير الفعالة والملوثة للبيئة إضافة لقيام الشوارع المسفلتة دون خرائط ودون نظام هندسي مدروس مما يؤدي لانهيارها أو تحويلها لمتاريس لحبس المياه وتوليد الناموس والذباب. يضاف لذلك بناء العمارات والبنايات الضخمة متعددة الطوابق دون التفكير في أين ستذهب مخرجات تلك العمارات التي تناطح السماء والتي تلتهم موارد طائلة في بنائها وتأسيسها واذا استمر البناء في الخرطوم بهذه الوتيرة دون نظام صرف صحي حديث ومستوفٍ للمواصفات الفنية بدقة متناهية، فلن يبقى فيها بعد سنوات قليلة قطرة ماء واحدة غير ملوثة. من نتائج التنمية الشائهة تلوث المياه، ضعف البنيات التحتية، سوء الخدمات الصحية حتى في المستشفيات الخاصة، ضعف المدارس الحكومية، انفلات الأسواق وعدم التزامها بأبسط المواصفات وربما كان ذلك من أسباب ظهور حالات مزعجة من الإمراض مثل الفشل الكلوي، السرطانات، امراض الصدر والحساسية والأوبئة الاخرى وآخرها الإسهالات الجماهيرية. في النهاية الإنجاز ضعيف قياساً على الإمكانيات المتوفرة. حتى أهداف بسيطة مثل السيطرة على قطوعات المياه وتنقيتها، توفير سلعة السكر بسعر مناسب وبيع الفراخ بسعر 9.5 جنيه للكيلو حسب ما وعدت الولاية، حتى هذه الأهداف لم يتم تحقيقها.