تبقى قضية التعليم والتعليم واكتساب الخبرات والمهارات والمعرفة من أكبر القضايا التي شغلت الإنسانية, وكما إن الإنسان انشغل بقضية محتوى المعرفة المعلوماتي من ناحية المعلومات المقدمة في المادة التعليمية فإنه أيضاً اهتم كثيراً بطرق إيصال المعنى الى الدارس أو القارئ أو المتلقي عبر كل الوسائل الحديثة أو التقليدية, وصب الإنسان كثيراً من جهده في دراسة كيفية أن تصل معلوماته بطرق أسهل يمكن عبرها للمتلقي أن يهضمها ويستوعبها مدركاً مراميها وأهدافها, إلا إنه بالإمكان ملاحظة تأخر هذه العملية المدروسة في بلادنا غير المتقدمة بحسبان أن العمليات التدريسية لدينا مازالت تمر بمراحل التلقين المباشر والمتواصل, بما يجعل المادة التدريسية أو التثقيفية تزداد في جحمها المرسل للمتلقي طولاً وعرضا, نقول طولاً ونعني زيادتها في الكمية وعدم اختصار المعلومات في المعلومات الكافية والأفكار الناجزة عبر شرحها بطرق مبسطة ونافذة للمعنى من غير التواءات أو ما يشوب الكتابة العربية مثلاً في استصطحاب ذهن القارئ في الكتابة ومحاورته, بينما القارئ بدءاً افتراضي وغير متوقع وتكون بمناقشته دون إرساء الخطوط المحددة للنقاش إقحام لأفكار جديدة لم تخطر على بال القارئ أو المتلقي, وعرضاً نعني بذلك الملاحظة التي أبديها حول كثير من المواد التثقيفية والتعليمية التي تمتلئ بالمعلومات التي يكون وجودها حشواً وزيادة كبيرة في جرعات التلقي. أعتقد أن العملية التثقيفية أو التعليمية تفترض بدءاً أن القارئ أو المتلقي عبر كل الوسائل يتعلم مادته الثقافية عبر وسائل أخرى متعددة منها تجاربه في الحياة، وفي الحوار وشعوره الداخلي الذي يشعره أمام التجارب الإنسانية والعاطفية ذلك إن تقاطعت تلك التجارب مع المخزون الفكري. مما يجعله في حالة مراجعات ومحاولات لدراسة أفكاره مع الخيارات التي عليه العمل والاقتناع بها, العمل من خلال هذه النظرة يسهل لصاحب الرسالة التثقيفية أو التعليمية إدراك كيفية إرسال المادة التثقيفية وكيفية معالجته عبر صياغتها وجعل ملامسة لقدرات التلقي وجحم الممكن من تلقيه في الفترات الزمنية, الشيء الذي لم نره في بلادنا في السنوات التي أعقبت الاستقلال وكانت زيادة ذلك الأمر وضوحاً الحال التي وصلت اليه المسألة التثقيفية والتعليمية في الزمان الأخير من القرن الماضي وبداياته بعد اختطاط الإنقاذ لمشروع إسلامي وصفته بالحضاري كان خطوتها نحو التحضر ومشروعها نحو الرقي لمجابهة القوى الدولية الكبرى, وبدلاً عن أن ينفتح هذا المشروع على ما أنجزته البشرية للوصول من خلاله للقدرات والخطوط العريضة لتملك الثقافة والمعرفة والبصيرة المعرفية نفسه وكل ذلك متطلب من أجل إنتاج فرد ممتلك للمعرفة بحيث تتجاور ثقافته اليومية مع واقعه المعيشي مع المادة التعليمية والتثقيفية ليكون من هؤلاء الثلاثة مكوناً كبيراً للمعرفة الانسانية والعلمية المتطلبات لرقي مجتمع اشترط حكامه الوصول لمرحلة النضج الحضاري وصولاً لمقارعة الانظمة الاقتصادية الكبرى والانفكاك من أثرها. كان الأمر غير ذلك إذ شهدت هذه المرحلة كثافة في تلقين المعلومات عبر المدرسة وازدحام المقرر بالمعلومات والتركيز على ازكاء روح اسلامية عبر ضخ النصوص الدينية القاطعة التي تعلم على معالجات كاملة يدخل فيها المنزل والشارع والأعلام المحبذ أن تكون المادة فيه سلسة غير مباشرة وغير تلقينية ولا تفترض الوصاية وأن هنالك من يدرون اكثر من الآخرين مراعاة لعاطفة الفرد وسعيه الخالص للتعلم إن توفرت له المادة التثقيفية بطرق مبشرة تلامس حسه الشعبي وفكره العام عبر لغته وطرق حوار التي تعود عليها. أنتجت هذه الطريقة الكثير من الطلبة النفعيين من ناحية طريقة ادراك المعرفة لسعيهم للحصول على الدرجات المتطلبة عبر اسهل الطرق وعبر صناعة نماذج واشكال للحفظ والقراءة تمكنهم من الإجابة على الاسئلة في الامتحانات دون استيعاب المادة. غير أن نتحدث عن استيعاب صلة المادة بالحياة اليومية وكون أن القوانين العلمية والمواد المعرفية والثقافية تسير عبرها حياتنا وادراكها يسهل لنا الكثير من طرق التعامل في الحياة اليومية وطرق اتخاذ القرار والتماسك الذهني والنفسي, بينما كانت عملية مسح الثقافة واهميتها من عقول الشباب طريقاً ادى الى ظهور كثير من الوسائل التعبيرية عن الفراغ وعدم التماسك من زيادة نسبة الإجرام ونسبة تعاطي المخدرات والخلافات السياسية والدينية والمذهنية التي وصلت الى داخل اسوار الجامعات بما ينبئ بأن طالب الجامعة ايضاً اصبح شريكاً في عملية السوء العامة في المجتمع السوداني واصبحت اخبار الأحداث الجنائية للطلاب تتصدر صفحات الصحف. الأخذ بعملية التثقيف كعملية مهمة ومتطلبة في المرحلة القادمة تتطلب الاهتمام والنظر اليها دون عن العمل بالطرق التقليدية لنشر الثقافة من ليال غنائية وإنشاد وشعر مرتجل كل ذلك دفعنا الى مراحل متأخرة أفقدت المجتمع مركزيته وإحساسه بالقدوة وبمن يقتدي في تعليمه وفي ثقافته مقابل ظهور الكثير من أنصاف المواهب وغير المتطورين في العملية التثقيفية والتعليمية لخلو الساحة من المنتجين الفعليين. ومن الطبيعي القول أن مرور فترات طويلة على الفرد السوداني دون التزود بالجديد فكراً وإبداعاً وعمله على مواصلة تعاطي القديم من فكر وثقافة أنهك كثيراً من حيله المطلوبة لمجابهة التغييرات التي مرت على السودان منذ اربعين سنة تأثراً بالتغييرات السياسية والبيئية والاجتماعية الناتجة عن الفقر والعوز وترييف المدن والهجرة والبطالة. وآثار ذلك في اخذهم من الرصيد الروحي لشباب وشيب هذه البلاد الذين تقطعت سبل حديثهم ولانت لغتهم أمام تلك المتغييرات, أقصد بمقالاتي هذه توخي أن المجموع الثقافي لبلادنا نكاد نجتمع عليه جميعنا ونفترق في الوسائل, فالحرص على دعم الأخلاق الحميدة نحرص عليها جميعاً ولم تشهد بلادنا عملاً ثقافياً إعلامياً علنياً يدعو الى الفسوق والتشبة بالغرب, إلا أن الانغلاق الفكري عند مجموع التيارات الإسلامية التي ترفض الثقافة الحرة التي تدعو الى خلق روح عليا هي الروح الوثابة الناجحة في ازكاء روح الجماعة, بينما عملت تلك التيارات بواقع النص ورفضت أن تخلق ثقافة حديثة ورفضت كذلك أن تترك الباب لثقافة غير تلقينية فشهدنا في الدراما كيف أن التلفزيون والمسرح يرفضان للممثلة الثمثيل دون حجاب حتى وان كان دورها لا يتطلب ذلك الحجاب كما كانت الميزانيات تدفع للثمثيل التلقيني لشرج نصوص في احاديث وآيات هي من واقع ثقافة المسلمين وكان لهم دراسته والتعرف عليها في اماكن اخرى. العملية المعرفية تتطلب أن يكون النص المعرفي ممتعاً لا يدخل متلقيه في حالة انتباه قسرية من اجل اكمال عمل قائم على فكرة التكرار والمواصلة في جعل المعرفة متراكمة وزائدة عن قدرة الفرد في تفعيلها من خلال تعامله اليومي مع الناس والحياة وحيوية المعرفة تكون بجعلها طريفة بعيدة عن النهي والتخويف, وبجعلها تأخذ طرقاً متعددة تدخل فيها الفنون والموسيقى والمسرح والخطوط وكافة الإبداعات التي تصنع الأذواق الرفيعة والنفس الراقية المتطلعة الى النجاح دوماً.