لم تعد مسألة «المعرفة والسلطة والتقنية» تقتصر على أنها قضية، إنها تجاوزت تلك الحدود لتصبح «إشكالية» من إشكاليات «النقد» و«النقاد» في دائرة سياق الحداثة. والحداثة عند العارفين كمفهوم، هي غير مفهوم التجديد أو المعاصرة. باعتبار أن «الحداثة» في مفهوماته قد تم انتزاعه وتخليصه من مكبوتات مفهومي «التجديد والمعاصرة» وفق إجراءات في غاية الصرامة العلمية عند الفلاسفة والنقاد وشراح النظريات. تلك المصادرة الأولية هي من لوازم مقالنا هذا اليوم ليعمل على بسط جدل المعرفة والسلطة في صيغته المعروفة ب«التقنية» في أكثر الأشكال اكتمالاً: «صناعة الإعلام والتي دخلت مداخلاً بعيدة الآفاق في سياقات نقاد الحداثة في ميولهم الشديد إلى معالجة نقاشاتها جدلياً وتأريخياً. وهذا ما جعل «أدورنو» على سبيل المثال أن ينفر من الاستنكاه الأنطلوجي للتقنية. فالتناول الجدلي الذي اجترحه لسؤال التقنية، يتداخل بين التقدم والارتكاس، بين العقلنة والأسطورة ينطوي التقدم على بذور التقهقر وتحمل الحضارة بذور الهيمنة. ومنظوراً من ذلك يمكن النظر إلى العصر الذي تمثله الحداثة، أن المعرفة تماهت في السلطة في أنموذجه «التقنية» لمزيد من التحكم، تمهيداً لمسارات منطق الهيمنة. وانتشار التقنية وثقافتها في عصرنا هذا، أصبح الأداة أو الآلة الأساسية في عمليات التحكم والمراقبة والضبط، إلى درجة أن الآلة التقنية نفسها أصبحت متحكم فيها، وبمعنى آخر أن التقنية وبوصفها وسيلة للتوجيه والتحكم في مسارات الأشياء هي نفسها أكثر استعداداً للتحكم عليها. وبهذا تحولت التقنية اليوم إلى غاية وضرورة. ويلتمع معنى ذلك الاندغام والتماهي للتقنية في أكثر أشكاله عند المؤسسة الإعلامية أو صناعة الإعلام. باعتبار أن أي خطاب إعلامي الوسيط فيه هو التقنية، وبالتقنية تتم عمليات التصفية - حذفاً وإضافة - وذلك ما عرف ب«التعليب التكنلوجي». وعلى ضوء هذا استمد الإعلام سلطانه، فإن كان لهذا العصر من سلطان غير القوة فهو سلطان الإعلام - حسب محمد زينو - «إنه (الفجور) التقني بلا مواربة هذا الإعصار الإعلامي المدمر هو ما ضاعفت وسائل التكنلوجيا الحديثة من قوته، حتى بات قادراً على تغيير الأفكار والعادات والتقاليد، والتبشير بقيم وأنماط أن هي إلا من منتجات مركز الاستقطاب العالمي». ويتجه التوسيط التقني إلى إزالة التناقضات والصراعات وجعل كل الأشياء على خلفية التماثل والتشابه، فلم تعد التقنية قناعاً فحسب، بل هي آلة للتنميط والخداع الجماعي. إن الشاهد في الأمر، وفي سياق التطور التقني يجد المرء أن الروح الكولونيالية تتنقل وتتقمص التقنية كأداة من أدوات السيطرة على الشعوب والتحكم عليها واسقاطها من الداخل. ووفقاً لقول «محمد زينو شومان»: عورات المجتمعات كلها يمكنك استعراضها عبر الشاشة الصغيرة، فالصورة هي الآن ظاهرة العصر، ولذلك فالعين أداة الثقافة. وبما أن العين هي صلة الفرد بالعالم، فهل فقد الأعمى مبرر وجوده؟ (الحديث لا يزال لزينو) ولكن من يحدد الرؤية؟. «أنا صورتي» غير أني أجزم أن هذه الصورة التي أراها على الشاشة، ليست لي. هي نقيضي، ثمة أيد أخرى جمعت أجزاء هذه الصورة (البازل)، خلقتها على شاكلتي لتوقع هذا الالتباس بيني وبينها. وما أراد قوله «محمد زينو» أن الإعلام يعمل على الطمس «تختلط ملامح الشعوب، إلا من استعصم بهُويته، ولم يقع في هوى الصورة المركبة». وينظر النقد الحديث - من منظورات مدرسة فرانكفورت - الذي يقوم بأدراج «التقنية» بصورته تلك إلى سؤال الحداثة بامتياز، ويحول مسألة التقنية إلى مقولة إشكالية. لا يمكن فهم التقنية كانكشاف أنطلوجي، وإنما بالأحرى كجدل تأريخي بين المتناقضات. من حيث إنها تعمل في المجتمع الحديث إلى بسط قناعها على التناقضات والصراعات، فتعمل على إخفائها وطمسها، كما تميل إلى تكريس علاقات الإنتاج وإلى بسط هيمنتها - حسب أدورنو - فتحيل هذا المجتمع إلى كل موحّد وإلى تطابق زائف. والمعنى في كلياته أن التقنية في المجتمع الحديث متواطئة مع القوى الارتكاسية، ومع الميول القمعية للحضارة الحديثة. وبهذا أصبحت التقنية وفق منظورات نقاد الحداثة، أنها «أيديولوجيا» أكثر من كونها مجرد قيمة محايدة لآلة من الآلات أو الوسيط التقني. وهذا التفسير يأخذ موقعه بوصفه - التقنية الأيديولوجية - تابع لنظرة اجتماعية محددة بإطار عقائدي معين، وإلى التأثير الواسع الذي يمارسه على المعيش اليومي كضرب من الوعي الزائف. ويرى الناقد «عبد العالي معزوز» تموضع الدالة الواسعة لسؤال التقنية في صميم أزمة الحداثة وأزمة المجتمع الحديث. ناظراً إليها من منظورات أغلب النقاد من المفهوم الواسع للتقنية كإيديولوجية، إما بصيغة نسيان الوجود عند هايدغر الذي يعتبر ماهية التقنية ضرباً من انكشاف الوجود، أو بصيغة اندغام المعرفة والسلطة عند فوكو الذي لا يعتبر التقنية تشويهاً إنما ضرباً من نظام الخطاب يبسط استراتيجيات لتحقيق ذلك الاندغام. بيد أن ذات التفسير هو ما يتكأ عليه أغلب النقاد في تأويلاتهم وتفسيراتهم لمسألة التقنية كوسيط للخطاب. إذ لم تعد الآلة الحربية وترسانات الأسلحة النارية هي الوسيلة الملائمة في حسم المعارك، بقدر ما أصبحت التقنية (الحاكمة والمتحكم عليها) هي أكثر الأدوات فلاحاً في الإجهاز على الطرف الآخر (الأضعف) بالآلة التقنية التي تعمل على تصفية الخطاب المرسل. وبهذا يصبح الإعلام وفق شروط «التعليب التقني» هو أكثر نتاجات الفكر الإنساني تحقيقاً للهدف، لا في قدرته على عبور القارات فحسب، بل على قدرته في عبور الثقافات. وبهذا تكون التقنية ليست مجرد جهاز، فهي أداة للاباحة وتخطي الإعراف، وسلطة تتحكم في أذواق الناس وأمزجتهم وقناعاتهم، وهي قادرة على إعادة خلق المجتمعات (أي تشكيلها) من جديد. بقصد صوغ آحادية الثقافة في الكون، وتوحد المشاعر والطقوس أو الشعائر في اتجاهات «الغرب» سيد التقنية والمتحكم عليه فيما تقوله للناس من المعارف.