عاش وحيداً ومات وحيداً.. كانت حياته غامضة غير مفهومة كأنها تنطوي على سر دفين.. ينطوي على نفسه ويؤانسها أكثر من غيره.. لا يهتم بأحد ولا أحد يهتم به.. حتى عند وفاته لم يعرفه أحد إلا بعد أن تعفنت جثته وأصدرت رائحة نتنة جاء على إثرها قليلون يبحثون عن مصد الرائحة و... وكانت المفاجأة أن عُثر عليه ممداً على فراشه بعد أن فارق الحياة لأكثر من ثلاث ليال.. انتشر الخبر وسرى بين الناس.. مات الرجل الغامض.. مات أم قتل؟ وربما انتحر؟ ولماذا ينتحر؟ وكيف يقتل؟ يقولون إنه وجد ميتاً بعد أن أصبح جيفة متعفنة.. و.. و.. وكانت قد تجمهرت أعداد غفيرة في مكان الجثة بعد أن أتت من كل صوب وحدب ليست متفجعة لكنها متشوقة لمعرفة السبب.. تتغامز الأعين وتتهامس الألسنة وتشرئب الأعناق الى العلالي علها تظفر بالنظرة الأخيرة على صاحب اللغز المحير في حياته ومماته.. قال أحدهم: يقولون إنه مات مسموماً ولا أحد يدري إن كان هذا السم قد دُس له بنية القتل أم وضعه هو بنية الانتحار.. وقال آخر: يقولون إنه مات بسكتة قلبية عندما صُدم في الفتاة التي يحبها.. وصاح آخر بل انتحر لخوفه من عار ارتكبه وقارب على الانكشاف.. وهمس آخر بلغة حزينة مات دون أن تذرف عليه دمعة ولا أحد عرف حقيقته.. وتساءلت فتاة بسفاهة ساقطة، ولماذا تذرف عليه الدموع وهو ليس أكثر من مجنون معتوه.. وصاحت أخرى وقد بدت عليها علامات الحزن والتوجع، بل مات محروقاً بنيران الغضب ومذبوحاً بمدية الغيرة بسبب تلك الأفعى الجهنمية التي يحبها وتحب غيره.. وظهرت من بين الصفوف المصطفة والسيقان الملتفة فتاة تصارع وتجاهد الوصول الى مكان الجثة، ثم تصرخ وتولول، وكانت المفاجأة للجميع.. الجيفة المتعفنة لأكثر من ثلاث ليال دون أن يعرفها أحد وبعد أن عرفت لا أحد يبكيها، الآن جاء من يبكيها وبحرقة وتوجع، فما حقيقتها هي الأخرى؟ سر أصبح الكل يتشوق لمعرفته.. انفرج الطريق أمامها، واصلت صراخها وعويلها حتى وصلت الى الجثة الممدة، فجثت عليها بركبتيها وأحنت رأسها على وجهه وكأنها تتلذذ باستنشاق تلك الرائحة النتنة التي أزكمت أنوف الحضور، صاحت في توجع..... مات ملك الزمان دون أن يدري بما في قلبي من شوق وحنان.. رحل الذي يحييني ومن بعده ستقتلني الأحزان.. بالأمس كان فرعاً ناضراً بين الأفنان.. والآن قد ذبُل الغصن الأخضر الريان.. وداعاً يا أخي وحبيبي فموعدنا الجنان.. ثم انكبت عليه بوجهها تبكي وتنتحب.. بطريقة استدرت الدموع من عيون الآخرين فأخذ الكل يبكي وينتحب.. الضاحك تكاد تخنقه العبرة.. والساخر لا يستطيع كفكفة دموعه.. وهكذا قد تحول كل الذين جاء بهم حب الاستطلاع الى باكين مكلومين.. فأصبح ذلك لغز جديد يريد من يفك طلاسمه، ثم بدأ الاستفسار عن هوية الفتاة التي تنتحب.. من تكون وما علاقتها بهذه الجيفة المتعفنة.. هل عشيقته أم قريبته.. اذن لماذا جاءت معرفتها متأخرة إن كانت حياته تهمها وموته جعلها تنتحب هكذا.. همس أحد الحاضرين في إذن صاحبه: قلبي يحدثني أن وراء هذا الشخص سر خطير وقد تعرفه هذه الفتاة التي تنتحب.. رد عليه صديقه بسؤال آخر، ولم يحدثك قلبك عن نوعية هذا السر؟ أجاب لا ولكنه سيحدثني قريباً.. ورفعت الفتاة رأسها وكفكفت دموعها والتفتت الى الحاضرين قائلة.. لماذا تبكون هل أحد منكم يعرفه، لماذا لا تواصلون في ضحككم وسخريتكم؟ هل تعرفون هذه الجيفة الممدة أمامكم؟ أنتم لا تعرفون هذا الشخص الذي يرقد ميتاً أمامكم لأنكم أدنى وأسفل من معرفتكم له.. ولا تعيرونه اهتماماً لأنه أسمى وأرفع من اهتماماتكم به.. قلتم إنه مات دون أن تزرف عليه دمعة وهو لا يحتاج الى دموع امثالكم.. وقلتم إنه مجنون وقد يكون كذلك في نظركم لأنه يقول مالا تفهمون.. نعم عاش وحيداً لأنه لم يجد من يفهمه ويدرك ما يصبو اليه ويشاركه الرأي.. عاش وحيداً عندما وجد نفسه كمن يحرث في البحر وهو يرى كلماته تصمون آذانكم دونها.. ولكنه لم يمت مقتولاً ولا منتحراً بل مات حسرة على جهلكم وفقركم وبؤسكم وتعاليكم وتكبركم.. مات كمداً وهو يراكم لا تفهمون شيئاً ولا تريدون أن تفهموا.. لم يمت مصدوماً في حب فتاة لأن الصدمة عندها لن تؤثر عليه اذا ما بادل إحداكن الحب.. لم يمت بمدية الغيرة ونيران الغضب فليس هنالك ما يغارون عليها ويغضبون منها.. لا تدعو الظنون تذهب بكم بعيداً ما هذا الشخص إلا واحد منكم نشأ بينكم لكنه نافذ العقل متفتح البصيرة يرى ما لا ترون ويعلم ما لا تعلمون.. تعالوا واقتربوا وضموا هذا الكنز الذي فرطم في ضياعه.. اقتربوا ولا تسدون أنوفكم هكذا فالرائحة التي تظنونها نتنة ما هي إلا طيب ومسك لكن الخنازير تأبى استنشاق الروائح الذكية.. وبرز إذ ذاك رجل جاف وكأن موجة الدموع الهيستيرية لم تغشه وتسأل في غلظة الى الفتاة المنتحبة.. من تكوني أنتِ أيتها الساقطة المنحلة وبأي صفة تتحدثين هكذا؟ وما علاقتك بهذا الرجل الحقير.. هل كنتما تفعلان ما يغضب الله في الخفاء.. ومثل لبوة شرسة أحست بالخطر يقترب من أبنائها فهبت لتدفعه عنهم، انتفضت الفتاة من مكمنها وبرزت للرجل مجيبة عن تساؤلاته.. لم أكن ساقطة ولا منحلة أيها البقل فأنا أكثر حفاظاً على نفسي وساقط ومنحل من يراني غير ذلك.. والصفة التي تجعلني أتحدث هكذا هي أنني وحدي من فهمت أفكار هذا الرجل الذي يرقد ميتاً أمامكم.. وعرفت أن ما يجعله ينطوي على وحدته ما هو إلا تفكيره في كيفية خلاصكم من هذا الجهل والبؤس الذي تعيشون فيه.. أما علاقتي به فهذه يصعب فهمها عليك أيها الغليظ ذي القلب المتحجر.. علاقتي به كعلاقة حواء بآدم.. حواء التي أوجدت من ضلع آدم لتشاركه حياته وتؤانسه وحدته.. وكما اختار الله حواء لآدم فقد اصطفاني من بينكم لمشاركة هذا الرجل أفكاره ومؤانسته في وحدته التي كانت من أجلكم.. ويجب ان تعلم ان هذا الرجل لهو أشرف منك ومنكم جميعاً.. وأنه لم يفعل شيئاً يغضب الله.. لكن ما تقوله أنت هو ما يغضب الله فهو الآن قد رحل وكان الأجدى أن تقول اللهم ارحم موتانا واغفر لهم بدلاً من أن ترميه بالقذف وهو ميت...