بعد أقل من شهر من قيامها، أطاحت ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011م، بالرئيس المخلوع حسني مبارك، الذي حكم مصر ما يقرب من ثلاثين عاما، تدهورت فيها مختلف جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مصر، وتراجع دورها العربي ومركزها الدولي. وأشاعت الثورة روحا إيجابية في المجتمع، وفي نفوس المصريين، مع نجاحها في تخليص مصر من رأس النظام، والقضاء على فكرة توريث الحكم لابنه جمال، وبزغت آمال قوية في أن يعقب ذلك السقوط استئصال النظام من جذوره، ودخول مصر عهدا جديدا من النهضة والتقدم. غير أنه قد ظهرت العديد من العثرات التي عطلت قطار الثورة، وبدأ القلق والخوف يتسرب إلى نفوس المصريين من ألا تتحقق الآمال الطوال التي علقوها على الحراك الثوري الذي شهدته مصر. وبين أيدينا كتاب للمفكر الاقتصادي والاجتماعي المصري الدكتور جلال أمين، بعنوان «ماذا جرى للثورة المصرية؟»، يتناول العوامل والأسباب التي أدت إلى تباطؤ قطار الثورة المصرية، بعد رصد الأسباب التي أدت إلى قيام الثورة، خصوصا الفساد والتدهور العام في مختلف أركان الحياة العامة في مصر. دواعي الثورة ويتكون الكتاب من أربعة أبواب، جاء تحتها 17 فصلا رئيسا، تناولت العوامل التي أدت لاندلاع الثورة، ومقدماتها، ثم التحديات التي بدأت الثورة تواجهها في الفترة التي تلت نجاح المصريين في الإطاحة برأس النظام الحاكم ووقف مشروع التوريث، مثل حوادث الفتنة الطائفية، وأخيرا آفاق المستقبل، وهل سوف تشهد مصر في الفترة المقبلة نحاجا في مجال تحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتخلص من التبعية، ثم بناء الدولة العصرية المدنية. الباب الأول كان بعنوان «دواعي الثورة» وجاء في ستة فصول، تناول العوامل التي أدت إلى اندلاع ثورة يناير في مصر، ويحصر الكاتب أهمها في الآتي: - البطالة وما يرتبط بها من أبعاد اجتماعية واقتصادية. - مشروع توريث الحكم من الرئيس المخلوع لنجله. - الخصخصة والفساد الذي ارتبط بها. - الفساد السياسي والاستبداد والسلوك العام للنظام الحاكم. - محاولات النظام الحاكم تجهيل الشعب، وتحديد معايير مغلوطة للوطنية. - القمع والاستبداد من خلال أدوات الدولة البوليسية. ويرصد أمين في هذا الإطار مجموعة من الظواهر والحوادث التي انتشرت في المجتمع المصري في السنوات الأخيرة، وتتعلق بهذه المشكلات، وتبين تفاقمها، وأنه كان من الطبيعي لهذا السبب أن يحدث الانفجار الشعبي الذي شهدته مصر في العام 2011م، وترتبط هذه الظواهر بالأساس بالسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تبناها النظام السابق، وأدت إلى العديد من المشكلات، من بينها اختفاء الطبقة الوسطى، وظهور معالم الصراع الطبقي في مصر. ويرصد معالم الكيفية التي كان يدير بها الأمور في مصر الرئيس المخلوع حسني مبارك والمجموعة الحاكمة معه، وعلى رأسها نجله جمال، باعتبار أن مصر تحولت مع طول بقاء مبارك في الحكم إلى ما يشبه الملكية الخاصة للرئيس وأبنائه وأسرته. السمة الثانية لفترة حكم مبارك -كما يقول جلال أمين- هي الفساد، الذي تؤكده مجموعة كبيرة من الوقائع التي ترتبط بالفساد السياسي والمالي والإداري في عهد مبارك، الذي أدى إلى إفساد الحياة العامة في الدولة المصرية، وفي المجتمع المصري، وطال المشروعات القومية الكبرى، مثل مشروع توشكى. ويركز الكتاب في هذا الإطار على الفساد الذي شاب عمليات بيع شركات القطاع العام، أو الخصخصة، التي شهدت أكبر عملية نهب لمصر وثرواتها، وينتقد الكاتب مبدأ الخصخصة والأركان التي قام عليها، باعتبار أن القطاع العام خاسر وأن الحكومة لا يمكنها إدارته أو حمايته من الفساد. ويشير في هذا الإطار إلى أن الخصخصة في مصر كانت مدفوعة من الخارج من أجل الاستيلاء على ثروات البلاد، مع وجود فوائض مالية كبيرة متحققة في الأسواق الدولية تبحث عن استثمارات ناجحة لها. كما يتناول المؤلف مشروع إعادة توزيع ملكية القطاع العام على المواطنين، مشيرا إلى آثاره الكارثية على الاقتصاد الوطني، التي من بينها تفتيت الملكية العامة، وتعريض المؤسسات الكبرى إلى الوقوع في قبضة المحتكرين، مع كون المواطن غير قادر على الإلمام بأبعاد عمليات البيع والشراء الرشيدة. ويربط المؤلف في هذا الجانب بين الخصخصة وما تم فيها ومشروع تفتيت ملكية ما تبقى من مؤسسات عامة، وسلسلة الاتفاقيات «التي باعت الوطن للأجانب»، على حد تعبيره، مثل اتفاقيتي الكويز والغاز الطبيعي الموقعة مع إسرائيل، ووقعتها حكومة رئيس الوزراء الأسبق أحمد نظيف، ويربط ذلك كله الإطار العام الذي بدأت مصر تدخله منذ العام 2004م، بعد تولي رجال الأعمال لمقاليد الأمور في مصر، مع تصاعد وتيرة مشروع توريث الحكم من الأب للابن. السمة الثالثة التي يرصدها الكاتب لسلوك نظام الرئيس المخلوع في مصر حسني مبارك هي القمع والقسوة في التعامل، سواء مع المواطن أو مع الأتباع ممن يخطئون من النظام، ويؤكد أن هذه السياسة استمرت من جانب بقية مؤسسات النظام التي لم تسقط بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير. كما يقيم الواقع السياسي للمعارضة المصرية في السنوات القريبة لسقوط مبارك، مثل الإخوان المسلمين والتيارات الناصرية والاشتراكية والليبرالية، وغيرها، ومن بين الملاحظات البارزة التي رصدها المؤلف على المعارضة المصرية في ذلك الوقت هو تشرذمها، رغم أنها كانت تشكل فيما بينها غالبية أبناء الشعب المصري. دواعي الأمل الباب الثاني من الكتاب جاء بعنوان «دواعي الأمل»، وجاء في فصلين، تناولا الفترة التي سبقت الثورة، والعوامل التي مهدت لها، والبوادر التي أشارت إلى إمكانية وقوع ثورة في مصر، وما جرى في الأيام ال18 لها. في بداية هذا الباب يتناول المؤلف مجموعة من المؤشرات الاجتماعية والثقافية التي مهدت لاندلاع الثورة في مصر، فيشير أولا إلى حالة الانفتاح الثقافي والاجتماعي التي طرأت على مصر في السنوات الأخيرة مقارنة مع الفترات السابقة، كما في الخمسينيات والستينيات الماضية. فيقول إن إقبال الشباب على القراءة زاد في السنوات الأخيرة، خصوصا الإبداعات التي يكتبها الشباب، وذلك من خلال ما لاحظه الكاتب في دورات معرض القاهرة الدولي للكتاب الأخيرة، ويشير إلى أن الوضع في مصر في هذه الفترة يشبه الوضع وقت حدوث ثورة يوليو، عندما أتاحت الفرصة لجيل كامل من شباب الكتاب والأدباء لأن يأخذ مكانه في ساحة الإبداع. ويشير كذلك إلى تنامي دور المرأة في المجتمع المصري، مقارنة بالخمسينيات والستينيات. إن الأيام الثمانية عشرة التي شهدت فيها مصر ثورة الشباب قبل عام ونيف، كما يقول الكاتب، كانت غير مألوفة في التاريخ المصري، منذ بداية الثورة، فيما يتعلق بحجم المظاهرات غير المسبوقة، وكذلك انتشارها في عدد كبير من المحافظات المصرية، بالإضافة إلى شمولها لفئات مختلفة عن الفئات التي تعارف بأنها المكون الرئيس للاحتجاجات الاجتماعية في مصر، وهي الطلبة والعمال، فقد شملت مظاهرات الخامس والعشرين من يناير والأيام التي تلته مشاركة مختلف فئات المجتمع. ويقول المؤلف إن نجاح الشباب المصري، دون قيادة، وبتدخل هامشي للقوى السياسية والنقابية القائمة، في تنظيم انتفاضة شعبية على هذا الحجم والمستوى، يشير إلى أن الشعب المصري لم يفقد حيويته رغم كل عقود الظلم والطغيان الماضية. في المقابل، كان الجمود هو أول ما أدى إلى سوء إدارة النظام المخلوع للأزمة في مصر، ويحلل الكاتب هنا سلوك النظام المصري قبل انهياره، فيقول إنه طيلة أيام الأزمة لم ينتبه إلى واقع التغيير الحاصل في مصر، وتعامل بنفس المنطق السابق من لا مبالاة وتعال. ويبدو ذلك في رد فعل النظام في الاستجابة لطلبات الجماهير الثائرة، فكل ما فعله الرئيس المخلوع حسني مبارك يوم 28 يناير ، الذي شهد المظاهرات المليونية هو إقالة الحكومة، والمجيء برئيس حكومة من الحكومة التي أقيلت، في محاولة للاحتفاظ بكرسي الحكم لآخر مدى. وكانت آخر فكرة يناقشها الكاتب في هذا الباب موقف الولاياتالمتحدة من الثورة في مصر، وربيع الثورات العربية برمتها، فيقول: إن الولاياتالمتحدة تواجه الكثير من المشكلات مع التحولات الكبيرة في مصر والعالم في الوقت الراهن، ويشير إلى أن المشكلة الكبرى التي تواجه الولاياتالمتحدة البحث عن طرف سياسي في مصر تقوم من خلاله بتمرير سياساتها وأجندات مصالحها. عوامل قلق الباب الثالث كان بعنوان «عوامل قلق»، ويتناول فيه المؤلف التطورات العامة التي شهدتها مصر في مرحلة ما بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، وتنحي الرئيس المخلوع، وعوامل الثورة المضادة القائمة، وذلك من خلال ثلاثة فصول تناولت سلسلة من القضايا المتعلقة بالسنة الأولى ما بعد الثورة. ويأخذ المؤلف مجموعة من المآخذ على القيادة العسكرية التي تولت إدارة البلاد في مرحلة ما بعد مبارك، ومن بينها عدم وضع الأطراف التي قادت الثورة أو شاركت فيها في مجال عملية صناعة القرار، مع إبقاء عدد من الرموز المهمة التي كانت موجودة في مفاصل صناعة القرار في مصر إبان حكم النظام السابق، في مكانها، في رئاسة الجمهورية وفي الجهاز الحكومي. ويتناول الكاتب في هذا الإطار مجموعة من الحوادث التي طرأت على مصر في مرحلة ما بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، التي ترتبط بشكل أو بآخر بقضية الثورة المضادة، فيشير إلى حادث كنيسة أطفيح كبداية لاستخدام الملف الطائفي في محاولة لتفجير الأوضاع في البلاد. وينتقد بعض الظواهر التي رافقت مرحلة التحول السياسي والاجتماعي في مصر بعد الثورة، ومن بينها إفساح المجال لرموز إما محسوبة على النظام المخلوع أو مرتبطة بأمور لا يمكن أن تتبدل النظرة إليها، مثل السماح لبعض أفراد المجموعة التي شاركت في اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات بالظهور في وسائل الإعلام. آفاق المستقبل الباب الرابع الأخير «آفاق المستقبل»، يقدم فيه الكاتب رؤاه وتصوراته للأوضاع في مصر في المرحلة القادمة، في أربعة مجالات رئيسة، وهي: الاقتصاد، وشكل الدولة والممارسة السياسية الداخلية، والسياسة الخارجية، والأوضاع الاجتماعية، ويعد خلاصة لأبرز الأفكار التي تضمنتها الأبواب الثلاثة الأولى للكتاب. وعموما يدعو الكاتب إلى أن تعمل مصر على تحقيق مجموعة من المستهدفات في الفترة القادمة، إذا أرادت أن تنطلق إلى اللحاق بالدول المتقدمة، ومن بينها العمل على إقامة دعائم الدولة المدنية العصرية، وتحقيق أركان العدالة الاجتماعية. ويقول إن مصر إذا ما أرادت تغيير مختلف أركان الصورة التي قامت عليها ثورة الخامس والعشرين من يناير، فإن عليها أن تتبنى سياسة خارجية جديدة تقوم على أساس الاستقلالية والندية في التعامل مع القوى الخارجية، بعيدا عن منطق التبعية الذي سيطر على السياسة الخارجية المصرية طيلة العقود الماضية. ويتخوف الكاتب من ظهور قوى ممانعة في مواجهة مشروع دولة الاستقلالية الاجتماعية والسياسية هذا، مشيرا إلى أن أبرز هذه القوى عدم وجود الوعي الكافي لدى شرائح عديدة من المجتمع، كما أن الخارج سوف يسعى كثيرا إلى عرقلة مشروع النهضة المصري، ومن ثم، فإن المهمة الرئيسة التي يدعو إليها المؤلف هي استعادة روح وهوية المجتمع المصري قبل الشروع في أي مشروع للنهضة. المصدر:الجزيرة