بدءًا التهنئة بتحرير مدينة هجليج لكل أفراد الشعب السوداني الأبي، الصابر، المرابض، والمبتلى بحكامه وسياسييه منذ استقلاله وحتى يومنا هذا وإلى أن يمن الله عليه بمن يحكم بصدق، لا بشعارات جوفاء، تناطح وتجافي الواقع، وتبتعد عنه بعد المشرق والمغرب. هذه التهنئة الافتتاحية كانت ضرورية ومن قبيل «لزوم ما يلزم»، حتى لا نتهم في وطنيتنا بالزندقة. وفي سياق العنوان أقول: الآن وفي غمرة النشوة والطرب والرقص (بشتى ضروبه وصوره) بالانتصار، يجب أن نتذكر قول رسولنا المصطفى عليه أفضل الصلوات وأتم التسليم، عندما رجع من إحدى غزواته، «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر»، وهو يقصد جهاد النفس، بكبح هواها، وذلك حسبما أشارت إليه بعض المصادر. وبما أننا ندعي الاقتداء بالسنة الطاهرة والاهتداء بنهج السلف الصالح، ففي تقديري يتمثل هذا الجهاد في (أولا) عدم المغالاة في الاحتفالات، نعم.. من حق الشعب السوداني أن يفرح بتحرير جنده جزءاً عزيزًا من أرضه، لكن امتداد أهازيج وكرنفالات الفرح إلى ما لا نهاية، فيه مضيعة للوقت والجهد والمال، وتعطيل لعجلة الإنتاج شبه المتوقفة أصلا، ولا يخلو من الاستغلال السياسي الضيق. الأحرى هو استغلال كل ذلك بما ينفع الناس، وأدنى النفع ترميم ما أفسده الهجوم الغادر على هجليج. وأذكر في هذا المقام أن الرئيس الأمريكي «الديمقراطي» بارك أوباما، بعد متابعته وتأكده من اغتيال «عدوه» أسامه بن لادن.. وعدو سلفه «الجمهوري» جورج دبليو بوش..، بعد ملاحقة وحروب امتدت لأكثر من عشر سنوات (وليس عشرة أيام) خرج إلى الشعب الأمريكي في بيان مقتضب ولدقائق تقل عن أصابع اليد الواحدة، معلنًا ومهنئًا له بالانتصار الذي تحقق (وذلك بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع ذلك) وبذلك طويت هذه الصفحة إلى ما بعدها!!!. (ثانيا) ترجمة تلاحم كافة فئات الشعب إلى برنامج سياسي مستدام: كان منالمبهر حقًا اتفاق وتلاحم كافة فئات الشعب السوداني على رفض وصد العدوان على هجليج. وبالتالي فإن الدرس المستفاد من ذلك التلاحم، هو كيفية توظيفه بشكل فوري في إرساء عملية سياسية جادة وذات مصداقية، لتكون مستدامة، وذلك لتجنيب البلاد ويلات المزيد من التشظي. ومن أهم عناصر هذه العملية هو قيام دولة مدنية على أسس دستورية يتفق عليها كل أهل السودان، تحترم فيها الحريات الفردية وحقوق الإنسان والتعددية الحزبية والتداول السلمي للسلطة ويعمل فيها الجميع عند مستوى رفيع من الحوكمة والمشاركة في ظل فصل تام بين السلطات واستقلال كامل للقضاء. (ثالثا) ضبط الخطاب السياسي، شهد الخطاب السياسي من بعض القيادات السياسية والدستورية طوال فترة حكم الإنقاذ وبعد تحرير هجليج، الكثير من التفلتات غير اللائقة (شوت ضفاري) التي شوهت وأضرت بسمعة السودان، ودفعنا ومازلنا ندفع تبعات ذلك إقليمياً ودوليا. وأحد أسباب ذلك هو تداخل الأدوار وعدم تحديد حدود المسؤوليات والصلاحيات بين القيادات السياسية، فأي مسؤول حكومي يمكن أن يتحدث في كافة القضايا المحلية والإقليمية والعالمية بشتى صورها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. يقيني أن الخطاب السياسي في المرحلة القادمة يحتاج إلى الكثير من الضبط. (رابعاً) مراجعة أسباب فشل اتفاقية نيفاشا وتفاديها في أي مفاوضات قادمة، دائماً ما كنت أحسب للإنقاذ نجاحها في إيقاف وإخماد نار الحرب اللعينة في جنوب السودان، بعيد توقيع اتفاقية السلام الشامل في نيفاشا، إذ سجلت بذلك هدفاً روماريويا. لكنها أفشلت (مع شريكها في الحكم وقتذاك.. الحركة الشعبية) ما وقعته من إتفاق، بسبب انكفاء المؤتمر الوطني على نفسه شمالا، وبغرور أنه من جلب السلام، وانكفاء الحركة الشعبية جنوبا، لكنها انفتحت على معارضيها بترغيبٍ وتخويف ووعود صادقة كانت أم كاذبة.. سيحكم عليها أبناء جنوب السودان. هذان الانكفاءان إبان الفترة الانتقالية كان أن خلقا فجوة ملأها الشريكان بجعجة المماحكات والمشاكسات والمراوغات السياسية، دون طحن النفاذ لحل الملفات العالقة التي كان من المفترض الوصول فيها إلى حلول، خاصة أن أي منها يمثل قنبلة موقوتة تنذر بحرب (كما حدث الآن). والغريب الذي يصعب تفسيره، هو اكتساب موعد الاستفتاء، كأحد بنود الاتفاقية دون غيرها، قدسية أحارت ذوي القربى من المؤتمر الوطني نفسه قبل كافة أهل السودان، وأشاعت بأن هنالك «جزرة ما» من جهة ما، خبأها المؤتمر الوطني من أعين البشر. الشاهد أن التاريخ والشعب السوداني سيذكران إلى قيام الساعة بأن اتفاق نيفاشا، لا غبار عليه كاتفاق، إلا أن الغبار كان في عدم تنفيذ بنوده كما جاءت، لذا لم يوقف حرباً ولم يجلب سلاما، بل أنه ضيع ثلث مساحة البلاد، وأكثر من ذلك نقل حرباً إلى جنوبي كردفان والنيل الأزرق، منذرة بداحس وغبراء أخريين بطول الحرب السابقة التي امتدت لأكثر من خمسين عامًا. تُرى، ما أسباب انكفاء المؤتمر الوطني على نفسه، وكيف هي المعالجة؟. (خامسا) إعمال مبدأ المحاسبة، كثر الحديث عن الثغرات أو الخلل أو التقصير.. سمه ما شئت.. في استراتيجيات وخطط ووسائل وطرق الدفاع عن حدود وأرض السودان، دون أن أشير «بالتسمية» إلى أي الجهة المسؤولة عن ذلك. وأهم هذه الاختراقات، ما حدث في هجليج مؤخرا (رغم تصريحات سلفا كير بعيد مجىء وفده إلى الخرطوم ودعوته الرئيس البشير للاجتماع في جوبا)، دخول حركة العدل والمساوة إلى مدينة أم درمان قبل عدد من السنوات، الاعتداء الإسرائيلي لأكثر من مرة على شرقنا الحبيب. كل هذه الثقرات كبدت السودان خسائر فادحة في النسل والحرث، وستضاف تبعات ذلك إلى ما ظل يدفعه الشعب السوداني من عنت ومشقة، دون أن نسمع أو نرى أي شكل من أشكال تبيان نقاط الضعف، أو المحاسبة أو تحميل المسؤولية للجهة المعنية بموضوع «التسمية».. فإلى متى سيستمر هذا الحال؟؟ خاصة إذا ما اصطحبنا ما يدور في مجالس أهل السودان من إضعاف متعمد لبعض الأجهزة النظامية حمايةً للنظام. لا شك في أن قائمة مواضيع الجهاد الأكبر تطول وتطول ولا يمكن حصرها في مقال واحد. لكن يقيني أننا إذا توافقنا على المواضيع أعلاه، فإننا سنستبق تفجر حروب جديدة وانقسامات جديدة لا سمح الله، وكذلك سنستبق وصول الربيع العربي إلى السودان وكارثية مآلات كل ذلك على الأوضاع السياسية والاقتصادية القائمة (والمطينة بطين)، وسنكسر الحلقة الخبيثة المتمثلة في ديمقراطية، ثم انقلاب عسكري ثم انتفاضة، التي لازمتنا منذ استقلالنا المجيد، وسنضيف إلى قائمة تفردنا كشعب سوداني، درساً آخر لشعوب الأرض، إذ أننا وقبل ثورة الاتصالات وانتشار الفضائيات حققنا أعظم ثورتين شعبيتين في التاريخ الحديث («اكتوبر الأخضر 1964م، وأبريل الأغر 1985م) دون إراقة دماء، وضربنا أنموذجاً في الوفاء بالعهد في انتقال السلطة من العسكر بقيادة المشير سوار الدهب إلى حكومة منتخبة. هذه النماذج ما زالت وستظل خالدة في وجدان الشعب السوداني، وستظل مثار إعجاب عالمي. *مستشار اقتصادي.