استقال كرم الله عباس والي القضارف. وكنت اهتممت بالولاية خلال حملتي الانتخابية لرئاسة الجمهورية في محاولة مني للتعرف على السياسات المحلية التي تضيع لظننا أن السياسة هي شغل الخرطوم والبقية يمتنعون. وكتبت عن الولاية كلمتين أشرت فيهما إلى أمرين لن تجدهما في سياسات الولايات الأخرى. الأمر الأول: إن كرم الله سياسي محلي مختلف جداً شديد الاعتزاز بمحليته. فهو من يفخر بأنه «تربال» (أجير زراعي) لأنه ملح الأرض. وتَصَعَّد في العمل النقابي في اتحاد المزارعين. فهو ربما كان الوالي الوحيد الذي له خبرة مباشرة ومصلحة في الاقتصاد السياسي لولايته. والبقية عزابة مبعوثون من الخرطوم سفراء للحكومة بالولايات. ولما كانت السياسة الحقة أصلها محلي فقد تجمر ولاء الرجل للقضارف. وكان غريباً منه أن يُشبه السياسة ب»العبادة» في لقاء صحفي ما. ونمى على هذه الخلفية، وبالزمن، شخصية مستقلة صدامية لا مثيل لها في المؤتمر الوطني. فحتى رجل المناقل العنيد الذي نافس بروفسير الزبير بشير في ولاية الجزيرة سرعان ما «فك البيرق». أما كرم الله فقد صادم حتى فرض نفسه على حزبه كمرشح على الولاية بغير رضى جماعات متنفذة. ولا أعتقد أن أياً من الولاة من لقي ترشيحه حفاوة الناس واحتشادهم. الأمر الثاني: إنه والٍ على مدينة القضارف التي لها دون المدن «سياسة» حيال سبل تنميتها في الزمان والمكان. لم تكن لعطبرتي شغلة غير التباكي العقيم على عهد فات. ولم تكن للخرطوم قيادة ساهرة على تطويرها. تصحو صفوتها وتنام مراوحة بين «دا أكل ود هبر»: حديث «بغر» لا ثورة. وخاضت أحياؤها قضاياها لوحدها. تظاهرت ودفيعة بالحاج يوسف من أجل «هواء نقي لكل أنف» مثلاً وصفوة الخرطوم ما أسمعت حياً. خلافاً لغيرها لم تكن القضارف تنتظر نهاية الأنقاذ لبدء سياستها المحلية. عزة الوالي بالولاية، التي لم يُصَدَّر إليها من النادي الكاثوليكي، دفعته شيئاً فشيئاً لتنمية روح «شعبوبة» (populist) قوامها أن يحكم الولاية بنوها. والشعبوي تجتمع عنده الناس من كل فج لأنه أمسك بخيط (دستورها) ولامس متاعبها أو أشواقها حتى لو لم يوفق في مسعاه. لهذا ارتكز الشعبوي على الشعب لا يدين حتى لحزبه. وقد رأينا كيف حمل كرم الله المؤتمر الوطني ليرشحه للولاية غصباً عنه. بل سمعنا ب»حرب الشٌباطة» بينه وكادر الحزب. وبلغت حدة نزاعه في الحزب أن لعلع الرصاص بين الخصوم. وأكثر شعبوية كرم الله ربما تأتت من عناية القضارف بنفسها. فمن أشراط ظهور الشعبوي أن يكون هناك «شعب» ساهر على قضيته. فسبيل الشعبوي للظفر بسياسيّ الأمر الواقع هي اقترابه ولو نفاقاً من عاطفة الاحتجاج عند ناسه. وكان احتجاج القضارف مؤسسياً. فقد أنشأ بعض قادتها المحليين منظمة «القضارف ضد الفساد» ووجهت نيرانها نحو «أبراج» الولاية المسرفة. وهما قصر الضيافة (5 مليار) والفلل الدستورية (10 مليار) ونجحت في وقف تشييدهما. ودعت في بيانات بلغت الستة إلى ترشيد الموارد. فالحكومة مبذرة بينما لا ميزة لغرفة الأنعاش بالمستشفي سوى مكيف... بااارد. وربما فهمنا لماذا أخلى كرم الله مبنى الحكومة الوثير لخدمات للشعب خلال ولايته القصيرة. صفوة القضارف نشطة وقائمة بأمر مدينتها فأنتجت ولاية شعبوية تبشر بفتح منتظر في السياسة المحلية. وستكتمل هذه البشارة ما استوى القضارفيون على خطتهم في دفع أجندة التنمية والشفافية وطهارة الحكم من الجذور كما فعلوا. وأتمنى أن يحرصوا على حث الوالي على إنفاذ أمرين التزم بهما: 1) قيام برلمانه الشعبي للشورى، 2) تكوين نواة لقضارفيين من أهل العلم لوضع خارطة طريق نمو الولاية. لا أدري، وقد قُضي الأمر وذهب الوالي، إن كنا وفقنا في أمره وأمر الولاية!