«أعادني استقلال دولة الأزواد في شمال مالي عن دولة مالي إلى كلمة من الأرشيف» لا أعرف من أعطانا قدرنا مثل ميخائيل مارغيلوف المبعوث الروسي إلينا. فبينما يحاول بعضنا الاقتداء بثورة تونس ومصر بالتدارك او التشبه قال مارغيلوف إن تقرير المصير في السودان هو الذي ألهم حركة التغيير في البلدين. فتقرير المصير السوداني كان هو نقطة انطلاق الثورتين. لولا أنني كنت متفائلاً بتجريتنا في طلب الحرية (حتى بتقرير المصير فالانفصال) لما استوقفتني فكرة مارغيلوف المبتكرة. فخلافاً لسائر صفوة الحكم والمعارضة والرأي كنت شديد الحفاوة بالطريقة التي ظللنا نعيد التفاوض في الوطن الموروث عن المستعمر. ولم يكن البدء فيه ب «تمرد» 1955 فحسب بل المذكرات الغرّاء التي تقدم بها اتحاد نقابات العمال لحكومة الزعيم الأزهري طوال 1954 لخدمة قضية الوطن والطبقة العاملة في إطار تحالف عريض لاستكمال التحرر الوطني. وقد ساء صفوتنا وعامتنا الشقاق في الوطن، مريض أفريقيا، خلال أكثر من خمسين عاماً. وظللنا نعيش تحت إرهاب سيناريوهاتهم للويل والثبور: سيكون حالنا مثل البلقان، لبنان ، صومال، يوغسلافيا، طالبان، كينيا وكل قارعة. بلغ من تفاؤلي بتجربتنا كمخاطرة مستحقة للحرية حد إقدامي للترشح لرئاسة الجمهورية. وكان حين يسألني المستنكرون وحسنو النية عن ما أعددت للمنصب من رباط الخيل أقول لا أكثر من رؤيتي لما صنعنا بإرادتنا الوطنية منذ الاستقلال. فبينما رأى أكثرنا فساد هذه الإرادة حتى تمنى عودة الاستعمار رأيت في خلافنا رحمة كبرى في طلب الوطن الجديد. واستعنت ببيت من الشاعر الأمريكي إليوت لأنعي على صفوتنا صفاقة حسها التاريخي. قال إليوت: لقد عشنا التجربة وغاب عنا معناها. فلقد خرجت صفوة النادي السياسي من التجربة الشقية صفر الخيال صفر المعنى. قلت في أحاديثي الانتخابية إنه استغرقتنا سنوات طويلة وعصيبة لترتيب البيت السوداني كوطن مستحق في دولة ما بعد الاستعمار. واتفقت لنا بالنتيجة مواثيق مكنت من المواطنة أطراف وقوى كانت خارج معادلة الحركة الوطنية التي ورثت دولة المستعمرين. ومالنا نمضي بعيداً فحتى المرأة والشباب في الشمال لم ينالا حق التصويت إلا بعد عقد من استقلالنا. وفي معرض هذه المواطنة السابغة ثمنت جهاد الهامش وغير الهامش في ترفعهم قبول الدنية في مواطنتهم وأخذهم تحررنا الوطني إلى غاياته القصوى. وكنت أقول للسائلين إنه توافرت لنا مواثيق استكملت الوطنية السودانية في نيفاشا وغيرها مهما قلنا عنها. ولم يبق إلا نعرش على كده. ورأيت في الانتخابات فرصة لتغيير الحرس القديم لنطبق هذه المواثيق بضمير ونؤمنها من النكسة. وكررت القول إننا ربما دون العالمين من حولنا نكاد نرى ضوء الوطن في نهاية النفق. وكنت أغامر فأقول إن الآخرين الذين يظنون بنا الفوضى سيأتي يومهم وسيعرفون من قريب أن شحمهم ورم كما قال المتنبي. وانفضح الشحم الورم في ساحل العاج وكينيا اللتين كانتا مضرب المثل في السكون: لا انقلابات ولا هيحانات إيدلوجية. فانظر كيف تبهدلتا بهدلة كبر. وكنت أجرؤ أكثر وأزعم للسائلين أننا ربما سبقنا حتى مصر إلى إعادة التفاوض في الوطن. وكنت رأيت بدايات وقفات الاحتجاج المصرية من فئة قليلة صارت كثيرة. وهي وقفات المنتظر بالباب لم يجد طريقه إلى طاولة مفاوضات حول مظلمته بينما صار هذا التفاوض عادة وطبيعة ثانية فينا. وبلغنا من فرط طلبنا الحرية حد تقرير المصير كأعلى مراحل الحرية في تكون الأمة-الدولة. وحرك هذا الحق ساكن الظلامات. فسرعان ما طالب به الأكراد في العراق وتجدد ملفه بين الشعب الصحراوي. ولربما كان هذا سياقاً مناسباً لنفهم عبارة مارغيلوف عن استفتائنا وثورات من حولنا. الروس برضو فيهم شيء . . . لماركس وجدله.