أنباء عن اغتيال ناظر في السودان    الصادق الرزيقي يكتب: الدعم السريع وشهية الحروب التي فُتحت في الإقليم    خسائر ضخمة ل"غانا"..تقرير خطير يكشف المثير    إسرائيل تستهدف القدرات العسكرية لإيران بدقة شديدة    "خطوة برقو" تفجّر الأوضاع في دارفور    الترجي يسقط أمام فلامنغو في مونديال الأندية    الحلقة رقم (3) من سلسلة إتصالاتي مع اللواء الركن متمرد مهدي الأمين كبة    افتتاح المرحلة النهائية للدوري التأهيلي للممتاز عصر اليوم باستاد الدامر.    فيكم من يحفظ (السر)؟    في السودان :كيف تتم حماية بلادنا من اختراق المخابرات الإسرائيلية للوسط الصحفي    من الجزيرة إلى كرب التوم..هل دخل الجنجويد مدينة أو قرية واستمرت فيها الحياة طبيعية؟    التقى بروفيسور مبارك محمد علي مجذوب.. كامل ادريس يثمن دور الخبراء الوطنيين في مختلف المجالات واسهاماتهم في القضايا الوطنية    هيمنة العليقي على ملفات الهلال    الحرب الايرانية – الاسرائيلية: بعيدا عن التكتيات العسكرية    نشاط مكثف لرئيس الوزراء قبل تشكيل الحكومة المرتقبة    نقل أسلحة إسرائيلية ومسيرات أوكرانية الى افريقيا بمساعدة دولة عربية    والي الخرطوم يصدر عدداً من الموجهات التنظيمية والادارية لمحاربة السكن العشوائي    أدوية يجب تجنب تناولها مع القهوة    شاهد بالصور والفيديو.. الفنان حسين الصادق ينزع "الطاقية" من رأس زميله "ود راوة" ويرتديها أثناء تقديم الأخير وصلة غنائية في حفل حاشد بالسعودية وساخرون: (إنصاف مدني النسخة الرجالية)    رئيس الوزراء يطلع على الوضع الصحي بالبلاد والموقف من وباء الكوليرا    إدارة مكافحة المخدرات بولاية البحر الأحمر تفكك شبكة إجرامية تهرب مخدر القات    شاهد بالصورة والفيديو.. وسط ضحكات المتابعين.. ناشط سوداني يوثق فشل نقل تجربة "الشربوت" السوداني للمواطن المصري    (يمكن نتلاقى ويمكن لا)    سمير العركي يكتب: رسالة خبيثة من إسرائيل إلى تركيا    عناوين الصحف الرياضية السودانية الصادرة اليوم الأثنين 16 يونيو 2025    شاهد بالفيديو.. الجامعة الأوروبية بجورجيا تختار الفنانة هدي عربي لتمثل السودان في حفل جماهيري ضخم للجاليات العربية    شاهد بالفيديو.. كشف عن معاناته وطلب المساعدة.. شاب سوداني بالقاهرة يعيش في الشارع بعد أن قامت زوجته بطرده من المنزل وحظر رقم هاتفه بسبب عدم مقدرته على دفع إيجار الشقة    رباعية نظيفة .. باريس يهين أتلتيكو مدريد في مونديال الأندية    بالصورة.."أتمنى لها حياة سعيدة".. الفنان مأمون سوار الدهب يفاجئ الجميع ويعلن إنفصاله رسمياً عن زوجته الحسناء ويكشف الحقائق كاملة: (زي ما كل الناس عارفه الطلاق ما بقع على"الحامل")    على طريقة البليهي.. "مشادة قوية" بين ياسر إبراهيم وميسي    المدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية يؤكد أهمية مضاعفة الإنتاج    المباحث الجنائية المركزية بولايةنهر النيل تنجح في فك طلاسم بلاغ قتيل حي الطراوة    من حق إيران وأي دولة أخري أن تحصل علي قنبلة نووية    أول دولة عربية تقرر إجلاء رعاياها من إيران    السودان..خطوة جديدة بشأن السفر    3 آلاف و820 شخصا"..حريق في مبنى بدبي والسلطات توضّح    ضربة إيرانية مباشرة في ريشون ليتسيون تثير صدمة في إسرائيل    بالصور.. زوجة الميرغني تقضي إجازتها الصيفية مع ابنتها وسط الحيوانات    معلومات جديدة عن الناجي الوحيد من طائرة الهند المنكوبة.. مكان مقعده ينقذه من الموت    بعد حالات تسمّم مخيفة..إغلاق مطعم مصري شهير وتوقيف مالكه    رئيس مجلس الوزراء يؤكد أهمية الكهرباء في نهضة وإعادة اعمار البلاد    إنهاء معاناة حي شهير في أمدرمان    وزارة الصحة وبالتعاون مع صحة الخرطوم تعلن تنفيذ حملة الاستجابة لوباء الكوليرا    فجرًا.. السلطات في السودان تلقيّ القبض على34 متّهمًا بينهم نظاميين    رئيس مجلس الوزراء يقدم تهاني عيد الاضحي المبارك لشرطة ولاية البحر الاحمر    وفاة حاجة من ولاية البحر الأحمر بمكة    اكتشاف مثير في صحراء بالسودان    رؤيا الحكيم غير ملزمة للجيش والشعب السوداني    محمد دفع الله.. (صُورة) تَتَحَدّث كُلّ اللُّغات    في سابقة تعد الأولى من نوعها.. دولة عربية تلغي شعيرة ذبح الأضاحي هذا العام لهذا السبب (….) وتحذيرات للسودانيين المقيمين فيها    شاهد بالفيديو.. داعية سوداني شهير يثير ضجة إسفيرية غير مسبوقة: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وأوصاني بدعوة الجيش والدعم السريع للتفاوض)    تراجع وفيات الكوليرا في الخرطوم    أثار محمد هاشم الحكيم عاصفة لم يكن بحاجة إلي آثارها الإرتدادية علي مصداقيته الكلامية والوجدانية    وزير المالية السوداني: المسيرات التي تضرب الكهرباء ومستودعات الوقود "إماراتية"    "الحرابة ولا حلو" لهاني عابدين.. نداء السلام والأمل في وجه التحديات    "عشبة الخلود".. ما سرّ النبتة القادمة من جبال وغابات آسيا؟    ما هي محظورات الحج للنساء؟    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جربنا الحجر: رد الاعتبار لمبدأ تقرير المصير .. بقلم: د. عبد الله على إبراهيم
نشر في سودانيل يوم 09 - 01 - 2011

لعل من أكلح وجوه انفصال السودان المرتقب أننا نخوض فيه كلنا بلا قبس من علوم السياسة. وأبرز قسمات هذا الخوض المجازف تفاقم الاستشهاد بالشعر والأغاني حتى قال جنوبي في قدرية الانفصال "فات الميعاد والإنكتب في جبينا بان" من أغنية للأستاذ صلاح بن البادية. ولما تصادف أن كان ميقات التصويت (9 يناير) قبل أول يناير، عيد استقلال السودان، سالت القصائد الوطنية على أنهر الوسائط. أما القسمة الأخرى الأخطر فهو إقبال أحزاب الشمال وهئياته "على بعضهم يتلاومون". فالسؤال الأعظم الذي يتردد في ردهات السياسة السودانية هو : من يتحمل وزر انفصال الجنوب؟". فالمعارضة تلقي الوز على نظام الانقاذ الذي لم يجعل الوحدة جاذبة ضمن سيئات أخرى تجل عن الحصر. ورد عليهم ؟؟غندور، أمين السياسة فيه، إنهم لن يتحملوا المسئولية وحدهم. فهم لم يكونوا البادئين بإعطاء الجنوب حق تقرير المصير. فقد سبقتهم إليه المعارضة باتفاق أسمر المصيري (1996) الذي قرر هذا الحق للجنوب. ولكن المعارضة تقول إن الحكومة هي التي رمت بهذا الكرت للمنقسمين للحركة الشعبية في 1995 في لقاء فرانكفورت. بل تجد باقان أموم، الأمين العام للحركة الشعبية والأجهر صوتاً بدعوة الانفصال، يقول بأن تقرير المصير ربما لم يطرا لهم لو لم "تغازل" الإنقاذ به الخارجين عليها في فرانكفورت لسحب البساط من تحت أقدامها.
أخشى أن تكون المعارضة بصدد تسجيل نقاط سياسة بتحميل الإنقاذ وزر الانفصال كابراً عن كابر. وليس بالطبع من الذكاء في شيء البحث عن المتهم بالانفصال (لو حولناه إلى جنية) طالما وقع في ظل حكم الإنقاذ. يكاد المريب ان يقول خذوني! ولكن الأهدى للمعارض ألا يحكم غريزته المعارضة في تحديد المأزور. ومن ذلك أن يسأل: كيف يرى الجنوبي المنفصل العيش لخمس وخمسين عاماً في دولة حكمتها أطراف من المعارضة وإن لمدد قصار؟ يكفي أن السيد سلفا كير قال بغير مٌؤاخذ إن الشمال لا يعرف سبيلاً لحكمنا سوى بالشريعة حتى لو كان الحزب الشيوعي نفسه على دست الحكم. فخلافاً للمعارضة فالجنوبي الذي سيصوت (أو صوت) في الاستفتاء أطول ذاكرة وأعرض من المعارضة التي همها إزالة الحاكم.
متى صوت الجنوبيون للانفصال كان تصويتهم رأياً في العلاقة مع الدولة التي غلب في حكمها صفوة شمالية مدنية وعسكرية. وليس دولة الإنقاذ في هذا التراث المغضوب عليه سوى رأس جبل الجليد الطافح. ولم أجد من اقترب من هذا المعني من المعارضين مثل الأستاذ الشفيع خضر، مسؤول العلاقات الخارجية بالحزب الشيوعي، الذي قال إن منح الجنوب حق تقرير المصير وقع في إطار "أزمة وطنية عميقة وشاملة طبعت كل أوجه الحياة السياسة بميسمها". وإنها تأزمت وتعقدت بالمعالجات القاصرة والخاطئة على أيدي القوى الاجتماعية التي شكلت الأنظمة المدنية والعسكرية التي تعاقبت على الحكم طيلة الخمس والخمسين سنة الماضية. واضاف، بحق، أنه لا قدم الأزمة ولا عمقها مما يعمينا "عن الدور الكبير الذي لعبه نظام الإنقاذ في تفاقمها وازديادها تعقيداً". وبكلمة فوزر الإنقاذ في الانفصال الوشيك هو فرق درجة لا نوع.
ونتدارك هنا قائلين بخطأ الاستنتاج من حقيقة أن المصوتين للاستفتاء هم الجنوبيون أنهم ضحايا وبراء من الأزمة الوطنية العامة. فقد كانوا لاعبين مميزين فيها (agents). فأول مواجهة لهم، عرفت ب"تمرد أغسطس 1955، ضد سلطة الخرطوم كان مذبحة مؤسفة ضد شماليين مدنيين من موظفي الحكومة وأسرهم قبل أربعة شهور من استقلال السودان في 1956. ومما يسقم النفس أن يعلن الجنوب منذ نحو سنتين أن 18 أغسطس، الذي لم يلق فيه جندي شمالي واحد حتفه، سيكون هو عيد للقدامى المحاربين في الجنوب.
غالباً ما أعفت الصفوة الشمالية، وهي في غمرة ثأراتها السياسية، ناهيك عن المجتمع الدولي، الجنوبيين من التأثيم لدورهم في الأزمة الوطنية السودانية العامة. فهم ضحايا وحسب. وهذا تجريد لهم من الفعل أصالة (agency)، أي "ما مؤاخذين"بعبارة عربية شائعة في إسقاط التكليف. فأختيارهم لتكتيك حرب العصابات أو التحرير في كل الظروف مكن للقوات المسلحة والأمن والأحزاب العقائدية الصغيرة والهاربين من الديمقراطية من زمام الحكم في الخرطوم حتى حكمتنا هذه التحالفات المستبدة 43 عاماً من عمر استقلالنا البالغ 55 عاماً. وطوت النظم الديكتاتورية المتطاولة صفحة واحدة من أنصع الحركات النقابية والجماهيرية في أفريقيا والشرق الأوسط وما بقي منها سوى الحطام. وهي حركة غير مذكورة في السجل السوداني المعاصر. ويكفي أن نذكر أن من إرث هذه الحركة الديمقراطية ثورة أكتوبر 1964 التي لم تقض على نظام الفريق عبود (1958-1964) بل أقامت حكومة لم تتكرر غلب فيها تمثيل العمال والمزارعين والمهنيين. وكرمت مواطنة المرأة والشباب من سن الثامن عشرة بحق التصويت. وعقدت، في ملابسات صعبة، مؤتمر المائدة المستديرة لحل مسألة الجنوب الذي تسربت توصياته وصارت أساساً للحكم الذاتي الإقليمي مما تمتع به الجنوب بعد اتفاقية أديس أبابا (1972) حتى اندلاع الحرب في 1983 بقيادة الحركة الشعبية الحالية.
ونتوقف في معرض توزيرنا للحركة القومية الجنوبية عند مفارقة مؤسفة. فبينما ناضلت الحركة الجماهيرية النقابية للديمقراطية بفرضية أن الديمقراطية هي المناخ الأمثل لحل مسألة الجنوب تجد الحركة القومية الجنوبية ناصبت هذه الديمقراطية العداء ورفعت السلاح في وجهها. فثورة 1964 قامت على محور كلمة قال بها الدكتور الشاب حسن الترابي في ندوة في سبتمبر 1964، قبل شهر من الثورة، عن وجوب الديمقراطية لحل الجنوب. ولما استرددنا الديمقراطية بالثورة تفرقت الحركة القومية الجنوبية بين قابل لها ومن تأبط السلاح ودخل الغابة. وانبذرت بذرة انقلاب مايو 1969 بين ضباط القوات المسلحة في الجنوب الذين اعتقلوا وزير الدفاع توبيخاً للحكومة على ضعف عتادها وخططها في حرب الجنوب. وحدث نفس الشيء بعد الإطاحة بالرئيس نميري (1969-1985) واستعادة الديمقراطية بالإنتفاضة الشعبية. فاستهترت الحركة الشعبية بالديمقراطية وقاطعت إنتخابات 1986 وواصلت التصعيد العسكري. وكان إسقاطها لطائرة مدنية بصاروخ وقتل ركابها الستين نقطة فاصلة في صعود نجم الجبهة القومية الإسلامية التي اعتزلها الناس لتورطها في التعاون مع الرئيس نميري. فاستثمرت إسقاط الطائرة الاستفزازي ، وتبنت المشاعر الإثنية العرقية للشماليين. وكانت البادرة فوزهم المجلل في انتخابات طلاب جامعة الخرطوم الذي هو مقياس الحرارة السياسية في البلاد. وخلا للإسلاميين الجو فتبنت حملة العلاقات العامة للقوات المسلحة بمناسبة مثل "أمان السودان". وكسبت أفئدة كبيرة نتيجة استفزازت أخرى مثل احتلال الحركة لمدن شمالية في تصعيد غير مناسب وهادم لبنية الديمقراطية. فتسربت عقيدة الانقلاب للترابي خلال هذه الأنشطة والمنعطفات فوقع انقلاب 1989. ولا تقف المفارقة المؤسفة عند هذا الحد. بل نجد القوميين الجنوبيين يعودون بعد القضاء على الديمقراطية لعقد اتفاقيات السلم مع المستبدين في أديس أبابا مع نميري وفي نيفاشا في 2005 مع البشير. ولم تعد عليهم هذه الاتفاقات المعقودة من وراء الحركة الديمقراطية الجماهيرية، وعلى حسابها، بغير الخسران: فأنقلب نميري عليهم في 1980 ورمى بالاتفاقية في سلة المهملات. وها نحن نراهم الآن حاملين على البشير الذي لم يجعل الوحدة جاذبة.
ربما ساعد هذا العرض الموجز للأزمة الوطنية المزمنة العامة القاريء ليثمن حق تقرير المصير الذي تواضع عليه السودانيون (وإن أسقمهم الانفصال نفسياً) بصورة مختلفة عما جرى من قبل. لن تجد ليوميات هذه الأزمة الوطنية الشاملة وشاغلها ذكراً في تحليل المحنة السودانية. وسبب غيابها أن المحللين نظروا لصراع السودان كنزاع ثقافي بين مسلمين وآخرين على "الوثنية" أو المسيحية (وإغفال أن كثيراً منهم على دين الإسلام). ثم جاءت دارفور المسلمة ليتحور مدار الخلاف ليصبح بين عرب وافارقة. وتغاضوا عن أن أزمة السودان هي أزمة التحول من مستعمرة إلى وطن وصيرورة الناس فيه مواطنين لا رعايا. وكلنا في هذا الهم أفارقة أو عرب باختلاف الكيانات الثقافية والاجتماعية في كل حال على حدة.
لم يقع لنا حق تقرير المصير عن فشل سوداني فطري. فالطاقة التي من وراء هذا المبدأ، كما أوضحنا، تكشف عن حيوية سياسة وطلب مثابر للحرية والمواطنة السوية. وهي حيوية بلغت أقصاها في السودان بينما لا تزال تتعثر في الأوطان الموروثة من الاستعمار. فنحن في أفريقيا سواء في عنت إعادة التفاوض في الدولة-الأمة المستلمة من المستعمرين. ولكن وتائر الشغف بوطن مستقل كانت أبكر في السودان وأسرع. فيوم كنا نٌعير ب "رجل أفريقيا المريض" من فرط شقاقنا كان يشار إلينا بساحل العاج الآمنة المطمئنة أو كينيا الساكنة التي لم يقع فيها انقلاب. ثم أنظر اليوم إلى ساحل العاج وقد كشفت عن شحمها الورم فإذا هي برأسين متشاكسين على سدة الجمهورية مما لم نصب به في السودان رغم طول الخلاف. وأنظر كينيا عادت من مذابح الأخدود المتصدع بعد الإنتخابات في 2007 تلعق جراح شقاق شعب الكوكيو وشعب اللو. وكانت أكثر المناطق التي تضررت في النفس والمال خلال الأزمة هي ضاحية نيفاشا التي انعقد فيها الإجماع السوداني على تقرير المصير ضمن مسائل أخرى. فأنظر عبير الأمكنة وفسادها معاً.
ليس بين العالمين (ولا بين كثير من السودانيين أنفسهم) من يريد أن يعطينا الفضل في أخذنا بمبدأ من مباديء تَكون الأمم لعلاج محنتنا الوطنية القديمة. لقد طرقنا كل الأبواب طلباً للاخاء الوطني: قتلنا مسألتنا بحثاً في تفاوض طاف بأركان الدنيا وصار مثار تآليف شتى، وتواثقنا على عهود أوفينا ببعضها ونكثنا بالأخرى حال العقود المعروف، وحاربنا بقوة وعزيمة عند ما رأى كل مننا الحق، ونعمنا بأوقات سلم جربنا فيها تمارين دستورية مثل الحكم الذاتي الإقليمي للجنوب بين 1972-1982 أو الكونفدرالية بغير تسمية من 2005 إلى تاريخه. بل جربنا الحجر (وقال سوداني لئيم ما وجدت الأرضة بعد تجريبها الحجر!). وليس العيب فينا. العيب في علم السياسة الذي توارى مفهوم تقرير المصير من كتابه لأنه توقف بنازع الحرية عند حركة التحرر من الاستعمار. وأصبح النضال للمواطنة الكريمة (التي كان السودان واحداً من أوسع ساحاتها) ، الذي أعقب الاستعمار، يثير ريب علمائها ورعب الحكام ممن نظروا له من باب الفتنة والفوضى. بل جرى تحريم طلب حق تقرير المصير للجماعات الشقية بوطنها بعد الاستقلال في الستينات بواسطة منظمة الوحدة الأفريقية التي هي ناد الوطنيين العاضين بالنواجذ على المستعمرة لا أحسنوا إدارتها ولا فضوها بإحسان.
وأكثر ما حجب نازع الحرية في السودان، الذي تجلى في مبدأ تقرير المصير باحتمالاته الخطرة، جاءنا من دوائر إسلامية وعربية. فقد حمّل الأستاذ محمد حسنين هيكل حكومات الاستقلال الوطني مسئولية الانفصال. ومع سداده في ذلك إلا أنه صرف حق تقرير المصير كعلة أو عاهة. ولو قرأ هيكل هذا المبدأ ،لا من زاوية الحكومات التي عابها فحسب بل من زاوية الهمة السودنية لإعادة التفاوض في الوطن أيضاً، لتحفظ في القول بسناريو الويل والثبور المحدق بالسودان مثل قوله أن ما بقي من السودان سييتفرق إلى أربع بلدان أخرى.
ولكن الحجاب الأغمق لهذا الخيار السوداني ما جاء في معرض منزلة السودان ك"ثغر" للعروبة والإسلام. فالأستاذ أمين الهويدي يراه ك"بوابة" للعرب والمسلمين إلى أفريقيا". كما يراه العلماء المسلمون الذين أفتوا قبل أيام بحرمة الاستفتاء السوداني (أي التنازل عن أرض المسلمين) "بوابة الإسلام والعروبة إلى الإسلام". ولما كان السودان بهذا الخطر أصبح تفكيكه غرضاً صليبياً إمبريالياً لفت عضد الأمة والعقيدة. وسبق لي نقد صورة السودان كثغر عربي إسلامي في كلمة قدمتها لمنتدى الشباب العربي في الخرطوم (1987) ونشرتها في كتابي "الثقافة والديمقراطية في السودان" (1995). قلت فيها إن المفهوم جعلنا جماعة من الدعاة لا الرعاة مكلفة عرقاً وديناً بنشر العربية مبتدئة بجيرتها من الأفريقيين بجنوب السودان . وأصبح السودان بواقع هذه المهمة مقرًا لمنظمات دعوة عربية وإسلامية ترعرع فيها كادر مميز حسن التدريب والمكافأة على إحسان التبشير لا المسؤولية عن الرعية. وأصبح من الصعب عند الكثيرين منهم أن يوازنوا بين مهمتهم كرجال دولة مسؤولين عن جماعات وطنية متباينة الثقافات، وبين مهمتهم كدعاة دعوة مخصوصة . وكثيرًا ما تغلَّب الداعية على رجل الدولة وهذا ما يفسر التوتر بل الإخفاق الذي لازم بناء الدولة السودانية لعقود طويلة.
وقلت إنه يجب الاعتراف بأن الدور المرسوم لنا دور مرهق جداً . فقد كان بإمكان هذه الجماعة السودانية أن تنعم بوقوعها على هامش مضخات الحركة والتجدد في الثقافة العربية والإسلامية مثلها مثل أية جماعة أخرى ، لولا وقوعها ك (ثغر) أو (رباط) ، بالمصطلح الجهادي ، في تماسها مع جماعات أفريقية يظن حملة الأديان الكتابية ، بما في ذلك الإسلام ، أنها خلاء من العقيدة. ولذا تلقى هذه الجماعة العربية الإسلامية حرجاً وعجزًا كبيرين حين تتصرف وفقاً لعقلية (الثغر) بإمكانيات (الهامش) . وترتب على استعدادنا للقيام بدورنا المرسوم أن تعاملنا مع الجماعات الأفريقية المساكنة لنا في الوطن السوداني كرجرجة بلا ثقافة ولا دين . فقد اتهمنا لغتهم بالعجمة ودينهم بالوثنية ودعمت دعوتنا الفكرية إجراءات قامت بها الدولة الوطنية لكسر المقومات اللغوية والدينية لهذه الجماعات الأفريقية لتستبدل لغتها باللغة الصواب (العربية) والدين بالدين الصحيح (الإسلام) . وترتب على هذا الموقف أن نشأ سوء تفاهم أصيل بين الجماعة العربية الإسلامية والجماعات الأفريقية في السودان . وهو سوء التفاهم الذي تفجر في حرب أهلية متصلة ومتقطعة طوال الثلاثين سنة الأخيرة منذ نيل السودان للحكم الذاتي في 1954 .
مهما يكن، وبعيداً عن اللوم واللوم المضاد، اختار السودانيون طريقاً شجاعاً لحل المسألة الوطنية بتفكيك الدولة الاستعمارية، متى أراد الجنوبيون، طالما أعيتهم الحيلة إلى الإلفة السودانية. ومر زمن كانت الهمة في انفراط دولة ناشزة سمة للعقل والشجاعة. وقد أطرى ألكس توكفيل، مؤلف كتاب "الديمقراطية في أمريكا" (1835)، أمريكا لتلك المأثرة. فلم يقع للأمريكيين "الاتحاد الناجز" الحالي إلا في مؤتمر فلادلفيا الدستوري عام 1786 الذي بدأ فيه المؤتمرون تشكيل الدولة من الصفر.وسيحصل السودانيون يوماً على توكفيلهم الذي سيميز شجاعتهم للعالمين. لقد كنا أول أمة أفريقية نالت استقلالها في 1956 ونحن أول أمة أخرجت مبدأ تقرير المصير من أضابير علم السياسة وحراس الدولة-المستعمرة الأشداء. وسيتبعنا كثيرون شمخوا بأنوفهم عليه بحمية الوطنية والقومية الكاذبة.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.