مراقد الشهداء    وجمعة ود فور    ليفربول يعبر إيفرتون ويتصدر الدوري الإنجليزي بالعلامة الكاملة    كامل إدريس يدشن أعمال اللجنة الوطنية لفك حصار الفاشر    وزير رياضة الجزيرة يهنئ بفوز الأهلي مدني    مخاوف من فقدان آلاف الأطفال السودانيين في ليبيا فرض التعليم بسبب الإقامة    سيد الأتيام يحقق انتصارًا تاريخيًا على النجم الساحلي التونسي في افتتاح مشاركته بالبطولة الكونفدرالية    وزير الداخلية .. التشديد على منع إستخدام الدراجات النارية داخل ولاية الخرطوم    شاهد بالفيديو.. استعرضت في الرقص بطريقة مثيرة.. حسناء الفن السوداني تغني باللهجة المصرية وتشعل حفل غنائي داخل "كافيه" بالقاهرة والجمهور المصري يتفاعل معها بالرقص    شاهد بالصور.. المودل السودانية الحسناء هديل إسماعيل تعود لإثارة الجدل وتستعرض جمالها بإطلالة مثيرة وملفتة وساخرون: (عاوزة تورينا الشعر ولا حاجة تانية)    شاهد.. ماذا قال الناشط الشهير "الإنصرافي" عن إيقاف الصحفية لينا يعقوب وسحب التصريح الصحفي الممنوح لها    10 طرق لكسب المال عبر الإنترنت من المنزل    بورتسودان.. حملات وقائية ومنعية لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة وضبط المركبات غير المقننة    شاهد بالفيديو.. طفلة سودانية تخطف الأضواء خلال مخاطبتها جمع من الحضور في حفل تخرجها من إحدى رياض الأطفال    جرعات حمض الفوليك الزائدة ترتبط بسكري الحمل    ريجيكامب بين معركة العناد والثقة    تعرف على مواعيد مباريات اليوم السبت 20 سبتمبر 2025    الأمين العام للأمم المتحدة: على العالم ألا يخاف من إسرائيل    لينا يعقوب والإمعان في تقويض السردية الوطنية!    حمّور زيادة يكتب: السودان والجهود الدولية المتكرّرة    حوار: النائبة العامة السودانية تكشف أسباب المطالبة بإنهاء تفويض بعثة تقصّي الحقائق الدولية    الطاهر ساتي يكتب: بنك العجائب ..!!    صحة الخرطوم تطمئن على صحة الفنان الكوميدي عبدالله عبدالسلام (فضيل)    «تزوجت شقيقها للحصول على الجنسية»..ترامب يهاجم إلهان عمر ويدعو إلى عزلها    وزير الزراعة والري في ختام زيارته للجزيرة: تعافي الجزيرة دحض لدعاوى المجاعة بالسودان    بدء حملة إعادة تهيئة قصر الشباب والأطفال بأم درمان    لجنة أمن ولاية الخرطوم: ضبطيات تتعلق بالسرقات وتوقيف أعداد كبيرة من المتعاونين    هجوم الدوحة والعقيدة الإسرائيلية الجديدة.. «رب ضارة نافعة»    هل سيؤدي إغلاق المدارس إلى التخفيف من حدة الوباء؟!    تعاون مصري سوداني في مجال الكهرباء    الخلافات تشتعل بين مدرب الهلال ومساعده عقب خسارة "سيكافا".. الروماني يتهم خالد بخيت بتسريب ما يجري في المعسكر للإعلام ويصرح: (إما أنا أو بخيت)    ترامب : بوتين خذلني.. وسننهي حرب غزة    شاهد بالفيديو.. شيخ الأمين: (في دعامي بدلعو؟ لهذا السبب استقبلت الدعامة.. أملك منزل في لندن ورغم ذلك فضلت البقاء في أصعب أوقات الحرب.. كنت تحت حراسة الاستخبارات وخرجت من السودان بطائرة عسكرية)    900 دولار في الساعة... الوظيفة التي قلبت موازين الرواتب حول العالم!    "نهاية مأساوية" لطفل خسر أموال والده في لعبة على الإنترنت    المالية تؤكد دعم توطين العلاج داخل البلاد    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا ود القضارف يسخر من الشاب السوداني الذي زعم أنه المهدي المنتظر: (اسمك يدل على أنك بتاع مرور والمهدي ما نازح في مصر وما عامل "آي لاينر" زيك)    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جربنا الحجر: رد الاعتبار لمبدأ تقرير المصير .. بقلم: د. عبد الله على إبراهيم
نشر في سودانيل يوم 09 - 01 - 2011

لعل من أكلح وجوه انفصال السودان المرتقب أننا نخوض فيه كلنا بلا قبس من علوم السياسة. وأبرز قسمات هذا الخوض المجازف تفاقم الاستشهاد بالشعر والأغاني حتى قال جنوبي في قدرية الانفصال "فات الميعاد والإنكتب في جبينا بان" من أغنية للأستاذ صلاح بن البادية. ولما تصادف أن كان ميقات التصويت (9 يناير) قبل أول يناير، عيد استقلال السودان، سالت القصائد الوطنية على أنهر الوسائط. أما القسمة الأخرى الأخطر فهو إقبال أحزاب الشمال وهئياته "على بعضهم يتلاومون". فالسؤال الأعظم الذي يتردد في ردهات السياسة السودانية هو : من يتحمل وزر انفصال الجنوب؟". فالمعارضة تلقي الوز على نظام الانقاذ الذي لم يجعل الوحدة جاذبة ضمن سيئات أخرى تجل عن الحصر. ورد عليهم ؟؟غندور، أمين السياسة فيه، إنهم لن يتحملوا المسئولية وحدهم. فهم لم يكونوا البادئين بإعطاء الجنوب حق تقرير المصير. فقد سبقتهم إليه المعارضة باتفاق أسمر المصيري (1996) الذي قرر هذا الحق للجنوب. ولكن المعارضة تقول إن الحكومة هي التي رمت بهذا الكرت للمنقسمين للحركة الشعبية في 1995 في لقاء فرانكفورت. بل تجد باقان أموم، الأمين العام للحركة الشعبية والأجهر صوتاً بدعوة الانفصال، يقول بأن تقرير المصير ربما لم يطرا لهم لو لم "تغازل" الإنقاذ به الخارجين عليها في فرانكفورت لسحب البساط من تحت أقدامها.
أخشى أن تكون المعارضة بصدد تسجيل نقاط سياسة بتحميل الإنقاذ وزر الانفصال كابراً عن كابر. وليس بالطبع من الذكاء في شيء البحث عن المتهم بالانفصال (لو حولناه إلى جنية) طالما وقع في ظل حكم الإنقاذ. يكاد المريب ان يقول خذوني! ولكن الأهدى للمعارض ألا يحكم غريزته المعارضة في تحديد المأزور. ومن ذلك أن يسأل: كيف يرى الجنوبي المنفصل العيش لخمس وخمسين عاماً في دولة حكمتها أطراف من المعارضة وإن لمدد قصار؟ يكفي أن السيد سلفا كير قال بغير مٌؤاخذ إن الشمال لا يعرف سبيلاً لحكمنا سوى بالشريعة حتى لو كان الحزب الشيوعي نفسه على دست الحكم. فخلافاً للمعارضة فالجنوبي الذي سيصوت (أو صوت) في الاستفتاء أطول ذاكرة وأعرض من المعارضة التي همها إزالة الحاكم.
متى صوت الجنوبيون للانفصال كان تصويتهم رأياً في العلاقة مع الدولة التي غلب في حكمها صفوة شمالية مدنية وعسكرية. وليس دولة الإنقاذ في هذا التراث المغضوب عليه سوى رأس جبل الجليد الطافح. ولم أجد من اقترب من هذا المعني من المعارضين مثل الأستاذ الشفيع خضر، مسؤول العلاقات الخارجية بالحزب الشيوعي، الذي قال إن منح الجنوب حق تقرير المصير وقع في إطار "أزمة وطنية عميقة وشاملة طبعت كل أوجه الحياة السياسة بميسمها". وإنها تأزمت وتعقدت بالمعالجات القاصرة والخاطئة على أيدي القوى الاجتماعية التي شكلت الأنظمة المدنية والعسكرية التي تعاقبت على الحكم طيلة الخمس والخمسين سنة الماضية. واضاف، بحق، أنه لا قدم الأزمة ولا عمقها مما يعمينا "عن الدور الكبير الذي لعبه نظام الإنقاذ في تفاقمها وازديادها تعقيداً". وبكلمة فوزر الإنقاذ في الانفصال الوشيك هو فرق درجة لا نوع.
ونتدارك هنا قائلين بخطأ الاستنتاج من حقيقة أن المصوتين للاستفتاء هم الجنوبيون أنهم ضحايا وبراء من الأزمة الوطنية العامة. فقد كانوا لاعبين مميزين فيها (agents). فأول مواجهة لهم، عرفت ب"تمرد أغسطس 1955، ضد سلطة الخرطوم كان مذبحة مؤسفة ضد شماليين مدنيين من موظفي الحكومة وأسرهم قبل أربعة شهور من استقلال السودان في 1956. ومما يسقم النفس أن يعلن الجنوب منذ نحو سنتين أن 18 أغسطس، الذي لم يلق فيه جندي شمالي واحد حتفه، سيكون هو عيد للقدامى المحاربين في الجنوب.
غالباً ما أعفت الصفوة الشمالية، وهي في غمرة ثأراتها السياسية، ناهيك عن المجتمع الدولي، الجنوبيين من التأثيم لدورهم في الأزمة الوطنية السودانية العامة. فهم ضحايا وحسب. وهذا تجريد لهم من الفعل أصالة (agency)، أي "ما مؤاخذين"بعبارة عربية شائعة في إسقاط التكليف. فأختيارهم لتكتيك حرب العصابات أو التحرير في كل الظروف مكن للقوات المسلحة والأمن والأحزاب العقائدية الصغيرة والهاربين من الديمقراطية من زمام الحكم في الخرطوم حتى حكمتنا هذه التحالفات المستبدة 43 عاماً من عمر استقلالنا البالغ 55 عاماً. وطوت النظم الديكتاتورية المتطاولة صفحة واحدة من أنصع الحركات النقابية والجماهيرية في أفريقيا والشرق الأوسط وما بقي منها سوى الحطام. وهي حركة غير مذكورة في السجل السوداني المعاصر. ويكفي أن نذكر أن من إرث هذه الحركة الديمقراطية ثورة أكتوبر 1964 التي لم تقض على نظام الفريق عبود (1958-1964) بل أقامت حكومة لم تتكرر غلب فيها تمثيل العمال والمزارعين والمهنيين. وكرمت مواطنة المرأة والشباب من سن الثامن عشرة بحق التصويت. وعقدت، في ملابسات صعبة، مؤتمر المائدة المستديرة لحل مسألة الجنوب الذي تسربت توصياته وصارت أساساً للحكم الذاتي الإقليمي مما تمتع به الجنوب بعد اتفاقية أديس أبابا (1972) حتى اندلاع الحرب في 1983 بقيادة الحركة الشعبية الحالية.
ونتوقف في معرض توزيرنا للحركة القومية الجنوبية عند مفارقة مؤسفة. فبينما ناضلت الحركة الجماهيرية النقابية للديمقراطية بفرضية أن الديمقراطية هي المناخ الأمثل لحل مسألة الجنوب تجد الحركة القومية الجنوبية ناصبت هذه الديمقراطية العداء ورفعت السلاح في وجهها. فثورة 1964 قامت على محور كلمة قال بها الدكتور الشاب حسن الترابي في ندوة في سبتمبر 1964، قبل شهر من الثورة، عن وجوب الديمقراطية لحل الجنوب. ولما استرددنا الديمقراطية بالثورة تفرقت الحركة القومية الجنوبية بين قابل لها ومن تأبط السلاح ودخل الغابة. وانبذرت بذرة انقلاب مايو 1969 بين ضباط القوات المسلحة في الجنوب الذين اعتقلوا وزير الدفاع توبيخاً للحكومة على ضعف عتادها وخططها في حرب الجنوب. وحدث نفس الشيء بعد الإطاحة بالرئيس نميري (1969-1985) واستعادة الديمقراطية بالإنتفاضة الشعبية. فاستهترت الحركة الشعبية بالديمقراطية وقاطعت إنتخابات 1986 وواصلت التصعيد العسكري. وكان إسقاطها لطائرة مدنية بصاروخ وقتل ركابها الستين نقطة فاصلة في صعود نجم الجبهة القومية الإسلامية التي اعتزلها الناس لتورطها في التعاون مع الرئيس نميري. فاستثمرت إسقاط الطائرة الاستفزازي ، وتبنت المشاعر الإثنية العرقية للشماليين. وكانت البادرة فوزهم المجلل في انتخابات طلاب جامعة الخرطوم الذي هو مقياس الحرارة السياسية في البلاد. وخلا للإسلاميين الجو فتبنت حملة العلاقات العامة للقوات المسلحة بمناسبة مثل "أمان السودان". وكسبت أفئدة كبيرة نتيجة استفزازت أخرى مثل احتلال الحركة لمدن شمالية في تصعيد غير مناسب وهادم لبنية الديمقراطية. فتسربت عقيدة الانقلاب للترابي خلال هذه الأنشطة والمنعطفات فوقع انقلاب 1989. ولا تقف المفارقة المؤسفة عند هذا الحد. بل نجد القوميين الجنوبيين يعودون بعد القضاء على الديمقراطية لعقد اتفاقيات السلم مع المستبدين في أديس أبابا مع نميري وفي نيفاشا في 2005 مع البشير. ولم تعد عليهم هذه الاتفاقات المعقودة من وراء الحركة الديمقراطية الجماهيرية، وعلى حسابها، بغير الخسران: فأنقلب نميري عليهم في 1980 ورمى بالاتفاقية في سلة المهملات. وها نحن نراهم الآن حاملين على البشير الذي لم يجعل الوحدة جاذبة.
ربما ساعد هذا العرض الموجز للأزمة الوطنية المزمنة العامة القاريء ليثمن حق تقرير المصير الذي تواضع عليه السودانيون (وإن أسقمهم الانفصال نفسياً) بصورة مختلفة عما جرى من قبل. لن تجد ليوميات هذه الأزمة الوطنية الشاملة وشاغلها ذكراً في تحليل المحنة السودانية. وسبب غيابها أن المحللين نظروا لصراع السودان كنزاع ثقافي بين مسلمين وآخرين على "الوثنية" أو المسيحية (وإغفال أن كثيراً منهم على دين الإسلام). ثم جاءت دارفور المسلمة ليتحور مدار الخلاف ليصبح بين عرب وافارقة. وتغاضوا عن أن أزمة السودان هي أزمة التحول من مستعمرة إلى وطن وصيرورة الناس فيه مواطنين لا رعايا. وكلنا في هذا الهم أفارقة أو عرب باختلاف الكيانات الثقافية والاجتماعية في كل حال على حدة.
لم يقع لنا حق تقرير المصير عن فشل سوداني فطري. فالطاقة التي من وراء هذا المبدأ، كما أوضحنا، تكشف عن حيوية سياسة وطلب مثابر للحرية والمواطنة السوية. وهي حيوية بلغت أقصاها في السودان بينما لا تزال تتعثر في الأوطان الموروثة من الاستعمار. فنحن في أفريقيا سواء في عنت إعادة التفاوض في الدولة-الأمة المستلمة من المستعمرين. ولكن وتائر الشغف بوطن مستقل كانت أبكر في السودان وأسرع. فيوم كنا نٌعير ب "رجل أفريقيا المريض" من فرط شقاقنا كان يشار إلينا بساحل العاج الآمنة المطمئنة أو كينيا الساكنة التي لم يقع فيها انقلاب. ثم أنظر اليوم إلى ساحل العاج وقد كشفت عن شحمها الورم فإذا هي برأسين متشاكسين على سدة الجمهورية مما لم نصب به في السودان رغم طول الخلاف. وأنظر كينيا عادت من مذابح الأخدود المتصدع بعد الإنتخابات في 2007 تلعق جراح شقاق شعب الكوكيو وشعب اللو. وكانت أكثر المناطق التي تضررت في النفس والمال خلال الأزمة هي ضاحية نيفاشا التي انعقد فيها الإجماع السوداني على تقرير المصير ضمن مسائل أخرى. فأنظر عبير الأمكنة وفسادها معاً.
ليس بين العالمين (ولا بين كثير من السودانيين أنفسهم) من يريد أن يعطينا الفضل في أخذنا بمبدأ من مباديء تَكون الأمم لعلاج محنتنا الوطنية القديمة. لقد طرقنا كل الأبواب طلباً للاخاء الوطني: قتلنا مسألتنا بحثاً في تفاوض طاف بأركان الدنيا وصار مثار تآليف شتى، وتواثقنا على عهود أوفينا ببعضها ونكثنا بالأخرى حال العقود المعروف، وحاربنا بقوة وعزيمة عند ما رأى كل مننا الحق، ونعمنا بأوقات سلم جربنا فيها تمارين دستورية مثل الحكم الذاتي الإقليمي للجنوب بين 1972-1982 أو الكونفدرالية بغير تسمية من 2005 إلى تاريخه. بل جربنا الحجر (وقال سوداني لئيم ما وجدت الأرضة بعد تجريبها الحجر!). وليس العيب فينا. العيب في علم السياسة الذي توارى مفهوم تقرير المصير من كتابه لأنه توقف بنازع الحرية عند حركة التحرر من الاستعمار. وأصبح النضال للمواطنة الكريمة (التي كان السودان واحداً من أوسع ساحاتها) ، الذي أعقب الاستعمار، يثير ريب علمائها ورعب الحكام ممن نظروا له من باب الفتنة والفوضى. بل جرى تحريم طلب حق تقرير المصير للجماعات الشقية بوطنها بعد الاستقلال في الستينات بواسطة منظمة الوحدة الأفريقية التي هي ناد الوطنيين العاضين بالنواجذ على المستعمرة لا أحسنوا إدارتها ولا فضوها بإحسان.
وأكثر ما حجب نازع الحرية في السودان، الذي تجلى في مبدأ تقرير المصير باحتمالاته الخطرة، جاءنا من دوائر إسلامية وعربية. فقد حمّل الأستاذ محمد حسنين هيكل حكومات الاستقلال الوطني مسئولية الانفصال. ومع سداده في ذلك إلا أنه صرف حق تقرير المصير كعلة أو عاهة. ولو قرأ هيكل هذا المبدأ ،لا من زاوية الحكومات التي عابها فحسب بل من زاوية الهمة السودنية لإعادة التفاوض في الوطن أيضاً، لتحفظ في القول بسناريو الويل والثبور المحدق بالسودان مثل قوله أن ما بقي من السودان سييتفرق إلى أربع بلدان أخرى.
ولكن الحجاب الأغمق لهذا الخيار السوداني ما جاء في معرض منزلة السودان ك"ثغر" للعروبة والإسلام. فالأستاذ أمين الهويدي يراه ك"بوابة" للعرب والمسلمين إلى أفريقيا". كما يراه العلماء المسلمون الذين أفتوا قبل أيام بحرمة الاستفتاء السوداني (أي التنازل عن أرض المسلمين) "بوابة الإسلام والعروبة إلى الإسلام". ولما كان السودان بهذا الخطر أصبح تفكيكه غرضاً صليبياً إمبريالياً لفت عضد الأمة والعقيدة. وسبق لي نقد صورة السودان كثغر عربي إسلامي في كلمة قدمتها لمنتدى الشباب العربي في الخرطوم (1987) ونشرتها في كتابي "الثقافة والديمقراطية في السودان" (1995). قلت فيها إن المفهوم جعلنا جماعة من الدعاة لا الرعاة مكلفة عرقاً وديناً بنشر العربية مبتدئة بجيرتها من الأفريقيين بجنوب السودان . وأصبح السودان بواقع هذه المهمة مقرًا لمنظمات دعوة عربية وإسلامية ترعرع فيها كادر مميز حسن التدريب والمكافأة على إحسان التبشير لا المسؤولية عن الرعية. وأصبح من الصعب عند الكثيرين منهم أن يوازنوا بين مهمتهم كرجال دولة مسؤولين عن جماعات وطنية متباينة الثقافات، وبين مهمتهم كدعاة دعوة مخصوصة . وكثيرًا ما تغلَّب الداعية على رجل الدولة وهذا ما يفسر التوتر بل الإخفاق الذي لازم بناء الدولة السودانية لعقود طويلة.
وقلت إنه يجب الاعتراف بأن الدور المرسوم لنا دور مرهق جداً . فقد كان بإمكان هذه الجماعة السودانية أن تنعم بوقوعها على هامش مضخات الحركة والتجدد في الثقافة العربية والإسلامية مثلها مثل أية جماعة أخرى ، لولا وقوعها ك (ثغر) أو (رباط) ، بالمصطلح الجهادي ، في تماسها مع جماعات أفريقية يظن حملة الأديان الكتابية ، بما في ذلك الإسلام ، أنها خلاء من العقيدة. ولذا تلقى هذه الجماعة العربية الإسلامية حرجاً وعجزًا كبيرين حين تتصرف وفقاً لعقلية (الثغر) بإمكانيات (الهامش) . وترتب على استعدادنا للقيام بدورنا المرسوم أن تعاملنا مع الجماعات الأفريقية المساكنة لنا في الوطن السوداني كرجرجة بلا ثقافة ولا دين . فقد اتهمنا لغتهم بالعجمة ودينهم بالوثنية ودعمت دعوتنا الفكرية إجراءات قامت بها الدولة الوطنية لكسر المقومات اللغوية والدينية لهذه الجماعات الأفريقية لتستبدل لغتها باللغة الصواب (العربية) والدين بالدين الصحيح (الإسلام) . وترتب على هذا الموقف أن نشأ سوء تفاهم أصيل بين الجماعة العربية الإسلامية والجماعات الأفريقية في السودان . وهو سوء التفاهم الذي تفجر في حرب أهلية متصلة ومتقطعة طوال الثلاثين سنة الأخيرة منذ نيل السودان للحكم الذاتي في 1954 .
مهما يكن، وبعيداً عن اللوم واللوم المضاد، اختار السودانيون طريقاً شجاعاً لحل المسألة الوطنية بتفكيك الدولة الاستعمارية، متى أراد الجنوبيون، طالما أعيتهم الحيلة إلى الإلفة السودانية. ومر زمن كانت الهمة في انفراط دولة ناشزة سمة للعقل والشجاعة. وقد أطرى ألكس توكفيل، مؤلف كتاب "الديمقراطية في أمريكا" (1835)، أمريكا لتلك المأثرة. فلم يقع للأمريكيين "الاتحاد الناجز" الحالي إلا في مؤتمر فلادلفيا الدستوري عام 1786 الذي بدأ فيه المؤتمرون تشكيل الدولة من الصفر.وسيحصل السودانيون يوماً على توكفيلهم الذي سيميز شجاعتهم للعالمين. لقد كنا أول أمة أفريقية نالت استقلالها في 1956 ونحن أول أمة أخرجت مبدأ تقرير المصير من أضابير علم السياسة وحراس الدولة-المستعمرة الأشداء. وسيتبعنا كثيرون شمخوا بأنوفهم عليه بحمية الوطنية والقومية الكاذبة.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.