اعترافات الحكومة المتكررة أخيراً باختلال الوضع الاقتصادي، حيث أقرّ وزير المالية، علي محمود، بظهور اختلال واضح في مؤشرات الاقتصاد الوطني خلال الربع الاول للعام الجاري. وتعهّد باتخاذ جملة تدابير مالية ونقدية في الوقت المناسب لاحتوائه. وكشف عن عجز في ميزان المدفوعات في الربع الأول من العام 2012 م قدره 285.7 مليون دولار مقابل فائض بمبلغ 183.2 مليون دولار في الربع الاول من العام الماضي، وعجز في الميزان التجاري بلغ 539.6 مليون دولار بسبب الانخفاض الكبير في صادرات البترول الخام في حين بلغ العجز الكلي 2986.3 مليون جنيه. وأكد صعوبة السيطرة على التصاعد الجنوني للأسعار. ولعلّ أبلغ مؤشرات تدهور الوضع الاقتصادي هو التصاعد الجنوني للأسعار ثم ارتفاع معدل التضخم الذي بلغ في مايو (30,4%)، فضلاً على تدهور سعر العملة الوطنية، حيث بلغ سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني أكثر من خمسة جنيهات. وارتفعت وتيرة شكوى المواطنين من المعيشة وفقدان النقود لقيمتها حيث اشتكى معظم المواطنين من ارتفاع الأسعار، وتأثيرها في معيشتهم. وأكد البعض اكتفاءه بتناول وجبة واحدة فقط خلال اليوم، وترك كثيرا من السلع. وفي ذات الوقت ارتفع صوت التجار بالشكوى من كساد بضائعهم بعد أن أحجم المواطن عن شراء سلع ضرورية؛ ما جعل أصحاب العمل يشكون ركوداً اقتصادياً يضرب كثيراً من الجوانب خاصتهم، وطالب عدد من الاقتصاديين بوضع حد للمعاناة التي يعيشها المواطن جراء تدهور المعيشة وارتفاع الأسعار. وكثير من المراقبين أرجعوا اعترافات الحكومة بالوضع الاقتصادي الراهن لتمرير زيادة أسعار المحروقات والسياسة الأخيرة الخاصة برفع سعر الدولار بالصرافات، والذي عدوه اعترافاً منها بأن سعر السوق الموازي هو السعر الحقيقي للدولار، وفي الأسبوع الماضي كثرت الندوات والاجتماعات للتحدث عن الوضع، واتاحة الفرصة لوزير المالية وأركان حربه وقيادات نافذه في الحزب الحاكم للإعلان عن جملة من التدابير المالية والنقدية التي تعتزم الحكومة اتخاذها لمعالجة هذه الاختلالات. والشاهد أن المعالجات التي تعتزم الحكومة اتخاذها كانت مدخل للمعارضة للتحذير منها، وأن تقود المواطن للخروج للشارع وتفجير ثورة شعبية. ولعلّ هذه الإجراءات أدت لانقسام في الرأي حولها داخل الحزب الحاكم وتباينت الآراء حولها. ولعلّ تصريح وزير المالية بنيته رفع الدعم عن المحروقات جعل النائبة بكتلة المؤتمر الوطني؛ سعاد الفاتح، تحذر من انفجار شعبي ضد الحكومة والبرلمان اللذين قالت إنهما يتجاهلان احتياجات المواطن، وأضافت «خلوا بالكم الشعب دا ما هين يسكت يسكت ولما ينفجر الله يستر». وزادت «الناس التحت قبة البرلمان ماعارفين ظروف الناس العايشة برا الوصلت بيهم الحالة إلى تناول وجبة سخينة فقط في اليوم».. غير أن أشرس صقور الوطني الدكتور نافع علي نافع نائب رئيس المؤتمر الوطني لشؤون الحزب قطع بثقته في المواطن السوداني بتفهم الوضع، مؤكداً أن الحرب الاقتصادية هي آخر محاولات الأعداء لتغيير النظام من الداخل عبر تحقيق الانهيار الذي يدفع لتفجير ثورة شعبية، لافتاً إلى أن تهديد المعارضة بخروج الشعب للشارع حال رفع الدعم عن المحروقات قُصد منه إرهاب الساسة والتنفيذيين من اتخاذ القرار وقطع بالقول (لسنا ك»النعام»، ولكننا سننحاز لما هو ضرورة وفي مصلحة المواطن وسنلجم كل مخذل حتى نحقق الاستقرار الاقتصادي). ودافع عن الإصلاحات الاقتصادية. وقال إنها تمثل رؤية القيادة السياسية للحزب وسيمضي فيها بلا تردد لكونها ضرورة لا تحتمل التأجيل، وقال لدى مخاطبته لقاءً جامعاً لحوالي ال (10) آلاف من قيادات وهياكل المؤتمر الوطني بولاية الخرطوم: من يخشى أن تكون هذه الإصلاحات مدعاة لخروج الشعب للشارع، فليعلم أن تأخيرها سيكون أدعى لذلك؛ لأن تركها سيؤدي إلى حياة لا تطاق، مشيراً إلى أن هذه الإجراءات سيتم اتخاذها لتخفيف وطء المعالجات على الشرائح الضعيفة. في وقت حاول فيه والي الخرطوم عبدالرحمن الخضر ووزير المالية الاتحادية علي محمود امتصاص غضب المواطن، حينما أعلنا أن رفع الدعم يتبعه زيادة في المرتبات لم يفصحا عن نسبتها. ويؤكد الخبير الاقتصادي دكتور عادل عبدالعزيز الفكي رفع الدعم عن سلع أساسية رغم قسوته، إلا انه ضروري جداً حتي لا يتحول وضع الاقتصاد لحالة الركود التضخمي وهي الحالة التي يوصف بها الاقتصاد عندما يتوالي ارتفاع الاسعار وفي نفس الوقت يتوقف عدد مقدر من المصانع والمقاولات ومقدمي الخدمات عن الانتاج لعجز المواطنين والحكومة عن الشراء، فيضطر المالكون للمصانع والمقاولات للاستغناء عن العاملين فتقل القوة الشرائية الكلية وتخرج المزيد من الصناعات المنتجة وتستمر الاسعار في الارتفاع. وأضاف «إن رفع الدعم يستهدف تمكين الحكومة من توفير موارد تمكنها من الاستمرار في الصرف على مشروعات التنمية وهي مشروعات تضيف موارد جديدة للاقتصاد. وفي نفس الوقت هي مشغلة للصناعات والمقاولات التي تحتاج لقوي عاملة، وبالتالي يسهم هذا في خفض نسب البطالة ويؤدي لزيادة القوي الشرائية، فتزدهر الصناعات والمقاولات، ويتجه بعضها لمجال الصادر، فتزيد قوة العملة السودانية مقابل العملات الاجنبية. وعلى هذا فيرى الفكي أن رفع الدعم سياسة اقتصادية سليمة، غير أنه أقرّ بأن لها آثار جانبية؛ لأنه يترتب عليها ارتفاع في المستوى العام للأسعار، لافتاً إلى أن نسبة 46% من سكان السودان تحت خط الفقر، وبالتالي رأى أنه هو الأمر الذي دعا حكومة ولاية الخرطوم تبتدر معالجات تواكب رفع الدعم منها على سبيل المثال سداد تكلفة التأمين الصحي لعدد (298) ألف أسرة فقيرة والدعم المباشر لحوالي (100) ألف أسرة والتأثير على أسعار اللحوم البيضاء من خلال دعم أسعار الاعلاف لعدد من المنتجين من خلال المخزون الاستراتيجي، وعمل مخابز بطاقات انتاجية كبيرة تؤثر في أسعار الخبز على المواطن بحيث يصبح (6) أرغفة مقابل الجنيه الواحد وتشجيع المبادرات الخاصة بتشغيل الخريجين من خلال حزم وحاضنات تستفيد من فرصة التمويل الأصغر وغيرها من المعالجات التي شرعت فيها ولاية الخرطوم ومنها أيضاً سلة قوت العاملين، بحيث يتم تقديم (10) سلع للعاملين بكلفة (500) جنيه تستقطع على مدي (6) أشهر من المرتبات. وقطع بأنه مثل هذه المعالجات يمكن أن تخفف من وطأة رفع الدعم. وفيما يتخوف البعض من أن يقود رفع الدعم عن السلع الاساسية المواطن لإعلان تمرده على الحكومة والخروج إلى الشارع، خاصة وأن البرلمان يشير لصعوبة الاجراء إلا أن عادل الفكي اعتبر أن رفع الدعم يقتضي من الدولة تهيئة المواطنين وتبصيرهم بحقائق الأمور لكي يأتي القبول من قبل المواطنين بهذه السياسات كسياسات اقتصادية ضرورية، لافتاً إلى أن القطاع الاقتصادي والدولة يخططان الآن لحزمة من الترتيبات الاقتصادية التي تتضمن تخفيض الانفاق من خلال خفض عدد الدستوريين وحزمة الإجراءات الضرورية مثل رفع قيمة الضرائب على بعض القطاعات وهذه الآن في طور التشاور ولم يتم الإعلان عنها، ولكن في كل الأحوال هي ضرورات تقتضيها المرحلة القادمة. وأضاف «لكي يتمكن العاملين بالحكومة من مواجهة ارتفاع الاسعار يمكنها أن تعمل على زيادة المرتبات»، مبيناً أنه عندما تتم تكون هنالك قوة شرائية اضافية وهذا سيحرك الاقتصاد وليس خصماً عليه.. وفيما وصف بعض المراقبين وضع الاقتصاد بالأزمة، أكد رئيس اللجنة الاقتصادية السابق دكتور بابكر محمد توم أن مشكلة الاقتصاد الراهنة لا تعتبر ازمة، لجهة قوله إنها قابلة للحل من حيث الاستفادة من الموارد والامكانيات المتاحة، والتي تمكن الإدارة الاقتصادية في البلاد بايجاد حلول ومعالجات واصلاحات دائمة ومؤقتة بعد استغلال هذه الموارد. واشار إلى وجود موارد معدنية وحيوانية وزراعية كبيرة كافية لحل مشاكل الاقتصاد، مشيرا إلى أن بنك السودان المركزي نجح في استجلاب ودائع من الخارج قد تضع بعض الحلول لسعر الصرف وتساعد في استقرار سعر الصرف، لافتاً إلى أن الاصلاحات المرتقبة في المدى البعيد تتمثل في زيادة انتاجية سلع الصادر حيث يتطلب تحقيق ذلك جهودا كبيرة. وشدد على أن تسلك وزارة المالية والجهات ذات الصلة أنجع الوسائل لزيادة الانتاج وجذب الاستثمارات والسعي لفك الاختناقات وتذليل المعوقات للقطاعات المنتجة. وطالب التوم المصارف بضرورة زيادة القدرات المصرفية مع ضرورة تكثيف المصارف المتخصصة عملها حتى بالاستدانة من الجهاز المصرفي لتوفير التمويل لزيادة انتاج سلع الصادر وتقليل الوارد لفك الاختناقات في ميزان المدفوعات. وأكد المك أن الميزانية والخلل الناجم من خروج البترول يكمن في وضع وسائل وبدائل تتمثل في رفع الدعم عن المحروقات رغم الآثار التي تحدث على المواطنين خاصة شرائح الفقراء من خلال زيادة وارتفاع الأسعار وايجاد معالجات لاستهلاك القطاعات الحكومية غير القابلة للترشيد، ودعا التوم لضرورة زيادة الجهد الضريبي والتوسع في المظلة الضريبية مع ادخال بعض السلع والقطاعات المستثناة من الضريبة. وشدد على ضرورة معالجة تجنيب الايرادات من قبل بعض الجهات الحكومية لمعالجة الفاقد، داعيا الجهات ذات الصلة بأن تلعب دورا كبيرا في محاربة ذلك.