في الجزء الرابع من محاولتنا لتلخيص الأوراق التي قدمت في المؤتمر التفاكري حول الأزمة الوطنية السودانية والذي أمّه العديد من المفكرين والمثقفين السودانيين. وطرحت فيه العديد من الأفكار والروئ التي تشكل ما يسمى بمستودع الأفكار (Think Tank)، لو أحسن تفعيلها، وذلك بتجسيد المناسب منها على أرض الواقع أو على الأقل ما يساعد في الوصول إلى حلول واقعية للأزمة التي تمر بها البلاد. سوف أتناول اليوم في هذا المقال الأوراق التي قدمها الدكاترة عبد السلام نور الدين وعبد اللطيف البوني والأستاذ عبد العزيز الصاوي، والتي نشرت جميعها في صحيفة الصحافة الصادرة بتاريخ 9 يونيو 2012، ثم أختم بالورقة التي قدمها د . الشفيع خضر سعيد، والتي نشرت في صحيفة الأحداث الصادرة بتاريخ 13 يونيو 2012، وسوف أبدأ بالورقة التي قدمها د. عبد السلام، وهي بعنوان (إلى أين تتجه الخيول؟!)، ففي تلمسه لأبعاد الأزمة الآنية التي تمر بها البلاد يطرح د. عبد السلام السؤال الآتي «إلى أين تتجه الخيول التي تجر عربة دولة الأزمة في السودان؟»، ثم يجيب «إن العربة تنحدر في الطريق الهابط إلى أسفل قاع الجحيم!» وفي وصفه لهذه الخيول يقول إنها تشمل «الأصولية الدينية (في وطن متعدد الأديان)، الاستبداد العسكري (في وطن هبت فيه ثورتان شعبيتان أنهت بهما حكومتين عسكريتين)، الأيديولوجية العربية (في وطن متعدد الأعراق والقوميات والثقافات واللغات)، التمييز الاثني (في وطن متعدد الأثنيات)، تطبيق اقتصاديات السوق الطفيلي (بفرض الضرائب والجبايات والإتاوات في بلد أغلبية سكانه يعيشون تحت خط الفقر)، ثم يقترح د. نور الدين تفعيل إجراءين أوليين حاسمين وهما «السعي الحثيث للعثور على مفاتيح مداخل الأزمة وتشخيصها للخروج بحلول مناسبة لها»، حتى نضع السودان في قلب مجرى الديمقراطية والتنمية المتواصلة والسلام الاجتماعي والعقلانية الفاعلة والتماسك النفسي. ثم يطرح د. نور الدين العديد من الأسئلة على شاكلة: هل فات الأوان وذهب كل شيء، ونحن نعيش في الزمن الضائع؟، وذلك لأن الفشل لازم الكثير من التطبيقات الاقتصادية والسياسية وأسلوب الحكم في السودان منذ الاستقلال وحتى الآن!، ثم يسأل ما العمل إذاً؟، يقول في إجابته: إن المؤتمر الدستوري قد يكون مخرجاً، ولكن يجب أن نضع تصوراً ومنهجاً للوصول إليه دون الحديث عن العموميات فقط! ثم يتحفظ على قيام الانتفاضة! ويتساءل أيضاً عن ما تقدمه الحركات المسلحة (تحالف كاودا والحركات الأخرى)، ولكنه يوافق على أن هزيمة النظام في ميادين القتال قد تشكل مخرجاً، ويشترط لتحقيق هذا الهدف أن تتحول هذه الحركات إلى أحزاب سياسية أولاً وأن تضع مشروع سياسي شامل وخريطة طريق تكون فيها البندقية أحد الخيارات وليس كما تفعل الآن، ويمضي في طرح أسئلة أخرى وهي: هل هناك الآن مبادرة لتغيير مسار الدولة والمجتمع في السودان حتى نتجنب الفوضى والاضطراب والذين قد يفضيان إلى دمار البلاد؟، وإذا كانت موجودة فلماذا لا تفعل الآن؟ أما في حالة عدم وجودها فمن الذي ينهض بمبادرة جديدة؟، هل هي قوى الداخل؟، هل هو الإتحاد الأفريقي؟، أم هي دول الإيقاد؟، أم الجامعة العربية؟، أم الإتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية؟ أم كل هذه القوى مجتمعه؟، وكيف تبدأ هذه المبادرة؟، ما مداخلها؟، وما مداها الزمني؟، ثم ينتهي إلى القول «كل تلك الأسئلة تطرح نفسها باعتبارها جزءاً من تلمس أبعاد الأزمة ومن أجل الاقتراب من حلها. في ورقته «النخبة السودانية.... محاولة للاختراق»، يشير د. البوني إلى أن النخبة السودانية طرحت أربعة مناهج لحكم السودان وبناء الدولة ولم تنجح كلها، فقد جربت المنهج الليبرالي ثلاث مرات، ولكن العسكر قضوا عليه بالحد لأدنى من التنظيم والتآمر في المرات الثلاث، ثم تبنى نميري النهج الاشتراكي في أول أيامه وفي أواخرها تبني النهج الإسلامي والذي تبنته الإنقاذ أيضاً ولم نصل في كل هذه التجارب إلى الوحدة الشاملة أو السلام العادل، أما تجربة صراع الهامش مع المركز فقد انتهت الى تقسيم السودان إلى دولتين عدوتين!. وينسب د. البوني فشل النخبة السودانية في بناء الدولة إلى سببين هما، عدم إخلاصها للحداثة والتحديث، وإنكفائها على فكرها في أحسن الفروض وعلى نفسها في أسوأها مما أدخل العنصرية والجهوية والقبلية في السياسة السودانية بالإضافة إلى تحالفها، بدافع الكسل الذهني والفكري مع القوي التقليدية مما أدى إلى انصراف الجماهير عنها والانتماء للتنظيمات السياسية الحديثة، أي تنظيمات يعنيها الدكتور؟!، ثم يُحذِّر د. البوني من «أن نهاية دور النخب قد يعني نهاية العمل السياسي القومي في السودان»، ويطرح السؤال عن كيف يكون الحل؟ ويقترح بناء وتقوية الأحزاب السياسية مع طرح مشروع خلاص فكري تضعه النخب السودانية لبناء دولة تكون مرجعيتها المواطنة وليس الدين أو العنصر أو القبيلة، ويختم ورقته بالقول: إن هذه رسالة النخبة السودانية الحديثة بل هو قدرها وعليها السير فيه بغض النظر عن نجاحها أو فشلها. فالكثير من الغايات لا تدرك كلها، ولكن مجرد السعي لتحقيقها قد تكون له نتائج إيجابية تخفف الأعباء عن كاهل الأجيال القادمة. أما الأستاذ حسين في ورقته المعنونة «أفكار حول الأزمة الوطنية والمخرج»، فقد أكد الحاجة الملحة لتأسيس نظام ديمقراطي في السياق السوداني الراهن، يتخذ طابعاً مصيرياً يتعلق بإنقاذ البلاد من التمزق الأفقي والرأسي، ويقول أن السبب في هذه الأزمة يرجع للأحزاب السودانية جميعها (الطائفية والأيدلوجية والقومية)؛ لأنها متنافية مع النظام الديمقراطي الليبرالي!!، ثم يعود ليقول «إن قصور النمطين التقليدي والحديث من الأحزاب السودانية، وأيضاً شرائح النخب غير المنتمية حزبياً كان له بالتأكيد مسوغات موضوعية متصلة بحالة التخلف العامة. كما أن دور النمط الأول في تسييس الولاءات الطائفية حزبياً كان إيجابياً، إذ أدخل مجموعات منها في إطار واحد مقرباً بذلك بينها، بينما شكل النمط الحزبي الأخر نافذة السودان الأوسع للتفاعل مع تيارات وحركات التغيير في العالم، ولعب الدور الرئيس في هز البنية الاجتماعية والثقافية المتخلفة وإيقاظ الطبقات الشعبية للمطالبة بحقوقها، غير أنني لم أفهم كيف شكل النمطين (وليس النظم الشمولية وحدها) العقبة الكبرى في مسار تجذير الديمقراطية بوصفها وعياً عاماً وممارسة تطبيقية!، غير أنني اتفق معه في أن تراجع الديمقراطية والوعي بها... هو سبب الاستطالة المتزايدة لأعمار الأنظمة الاستبدادية المتلاحقة وتزايد خصائص الشمولية فيها، كما يقول أيضاً، أنه وبالرغم من أن ثورة أكتوبر ضد انقلاب عبود (الذي كان أول خرق لقاعدة التداول السلمي للسلطة) فتحت الطريق مرة أخرى لإحياء النظام الديمقراطي اللبرالي، إلا أن المفهوم الخطأ عند بعض مكونات النخبة السودانية، كونها (الديمقراطية اللبرالية)، تمثل إرثاً برجوازياً غربياً متناقضاً مع الحقوق السياسية والاجتماعية للطبقات الشعبية، قد أساء إلى تلك الثورة كثيراً، وفي تقديري إن ذلك المفهوم لم يكن متداولاً بين النخبة السودانية، بل يمكنني القول بأن ما كان سائداً حين ذاك، هو أن ثورة أكتوبر قد فتحت الباب على مصراعيه لإنجاز مهام المرحلة الوطنية الديمقراطية والتي تشمل التعددية الحزبية والتداول السلمي للسلطة. ثم يمضي الأستاذ عبد العزيز ليقول «إن الأثر السلبي للحقب الانقلابية يتمثل في إلغاء الوجود الفعلي للديمقراطية وتجميد حركة الفكر والثقافة العامة التي لا غنى عنها لنمو حوافز التطوير، ومن أثارها السلبية، التأثير على الطبقة الوسطى وهجرة العقول وتوسيع نطاق الحروب الأهلية وتدني وتداعي الاقتصاد الوطني... الخ، وبعد هذا التشخيص يقول الصاوي «إن أي خطة عمل تتوخى تقدماً مطرداً نحو الديمقراطية، لابد أن يكون مرتكزها هو الترافق بين إعادة استزراع مقومات الحداثة والاستنارة وإعادة تأسيس المشروع الديمقراطي، وذلك عبر هدفين محوريين مترابطين هما الإصلاح التعليمي وتطوير المجتمع المدني. د. الشفيع خضر في ورقته «الأزمة السودانية... التحديات والحلول» يحدد مظاهر الأزمة في: 1. انفصال الجنوب.2. الحرب الأهلية في دارفور وجنوبي كردفان والنيل الزرق.3. احتمال انهيار اتفاق الدوحة بشان دارفور.4. احتمال نشوب حرب بين دولتي السودان.5. ترنح الاقتصاد السوداني وتوجهه صوب الانهيار الكامل. 6. تفشي الفساد.7. اشتداد الضائقة المعيشية.8. ازدياد وتفشي مظاهر خطيرة منها الهوس الديني والعنصرية وتمزيق النسيج الاجتماعي.9. قمع الحريات العامة. ثم يذكر مسبباتها والتي تشتمل على: أولاً: استمرار هيمنة نظام حكم الحزب الواحد. ثانياً: عدم تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2046. وقد تنبأ الدكتور الشفيع بأن عدم تنفيذ قرار مجلس الأمن قد يؤدي إلى التدخل الدولي بتطبيق البند السابع مما سيزيد من الأزمة، ولخروج البلاد منها يقترح التوافق على تنفيذ أربعة شروط جوهرية وهي اعتراف النظام بأن البلاد تمر بأزمة حقيقية، ثم قناعة كل الأطراف بمبدأ المساومة والتسوية التوافقية، إنهاء حكم الحزب الواحد، توفير الحريات الأساسية وإلغاء القوانين المقيدة للحريات ووقف الحرب وإعادة النظر في تركيبة أجهزة الدولة والتحقيق والمحاسبة في الفساد مع وضع برنامج اقتصادي يرفع المعاناة عن الجماهير. أما آليات التطبيق فتشمل: حكومة قومية انتقالية، مؤتمر قومي دستوري، مؤتمرات قومية تخصصية ثم البحث عن معادلة للتعامل مع المحكمة الجنائية الدولية. أختم مقالي بالنداء الذي كتبه فيصل حضره: على كل الأطراف المعنية بالسودان العمل لتغيير اتجاهه الانتحاري.