مختلو العقل بالخرطوم تحولوا لجيوش، ولا يوجد شارع واحد في العاصمة يخلو من شخص يتحدث بصوت عال .. مع نفسه! تريدون الحق ؟ المجانين وغير المجانين باتوا في حالة حوار عالي الصوت مع النفس ! لكن ضغوط الحياة تؤثر في الصحة العقلية، وكل شخص مختل العقل .. ويسير وحده في الشارع، يرفع إدانة صريحة لذويه، وللسلطات الصحية، وللسلطات الأمنية أيضا ! مرضى العقول .. كثيرا ما يكونون من شفيفي الروح، ومن رقيقي المشاعر، فتأتي تلك الضغوط وما أكثرها فتحيلهم لكائنات شاردة، منفصمة عن الواقع، تطارد بنظراتها خيالات لا تراها إلا هي، وتحادث أناسا خفيين لا وجود لهم إلا في عقولها ! العجيب أن الناس تسارع للأطباء، ولا يغمض لها جفن، إذا أصابها الإسهال، أو القيء، أو الحمى، في حين أن الناس .. تتماطل وتتكاسل، وهي ترى نفسها .. أو أحد أفراد أسرتها .. في حالة انقباض نفسي، أو انغلاق ينبئ عن بدايات اكتئاب، أو لجوء لتصرفات لا تستقيم مع منطق العقل السليم ! المريض العقلي، أحوج من غيره للرعاية، لأن داءه يمس مكمن التكريم والتكليف في الإنسان، وهو العقل. لذلك، فإهمال الصحة العقلية للناس، معناه أن نحول مجتمعنا لمجتمع مختل العقل، وهو ما بدأت بوادره في الظهور، حيث ان نظرة فاحصة للمتزاحمين في الأسواق، تكشف وجود المختلين .. بقدر واضح وملحوظ. الخطورة الماحقة .. أن دفاتر الشرطة، وساحات القضاء .. زاخرة بالجرائم الدموية، والتي يفقد فيها الكثيرون حياتهم، أو يتعرضون خلالها للأذى الجسيم، والسبب يكمن في اعتداءات يرتكبها أشخاص مختلو العقل، دونما أي سبب، فيوردون الآخرين المهالك .. دون أي ذنب ارتكبوه ! لكن أكثر ما يدمي الفؤاد، أن ينهش الإهمال، أولئك المصابات باختلال النفس والعقل، فلا أقسى من ترك فتاة مريضة عقلية .. تواجه مصيرها في الشارع، لتدفع أثمانا فادحة .. لا يريدها أحد لابنته، أو أخته، أو قريبته. إن ثقافة أن اختلال العقل يمثل (فضيحة) أو (وصمة) في العائلة .. ثقافة لا إنسانية .. تجاه أناس لا ذنب لهم فيما يحدث لهم ومنهم، وتجعل من المجتمع، مهما بلغ من الوعي، مجتمعا أجوف، قصير النظر، متدني الإدراك بأن لا أحد معصوم من الداء والمرض، وأن اختلال العقل .. خطر ماحق .. قد يدفع الأبرياء ثمنه .. وهؤلاء الأبرياء قد يكونون (نحن) .. ذكورا وإناثا ! أي مختل أو مختلة .. نصادفه ونصادفها في شوارعنا .. (إدانة) للمجتمع، بجميع مكوناته، حيث مكان المختلين المصحات، ودور الرعاية .. وليس الشوارع .. بأخطارها الجسيمة، سواء للعقلاء، أولغيرهم.