{ حسناً، ولا يتوقعنّ أحدكم أنني مجنونتها هذه المدينة العريقة الكبيرة والتأريخية والمشبّعة بالسحنات والجغرافية البشرية.. لكني بالتأكيد مجرورة للحديث عن مجانينها أن صحّ لي تسميتهم على اختلاف أسباب جنّهم وتجنيهم. { فالفئة التي درج الجميع على تسميتهم (بالمجانين) وهم فئة من الناس فقدوا القوة العقلية التي تستطيع التمييز بين الخطأ والصواب في الحياة وهاموا في ملكوتهم الخاص بها بمسببات كثيرة تبدأ بالضغوط النفسية والجهل العلاجي وتنتهي بالتلف العقلي الكبير هذا تعريف اجتهادي لا علاقة له بالعلمية. { وأم درمانالمدينة الكبيرة تحتشد في الكثير من أسواقها وشوارعها بهذه الفئة وبشكل مزعج جداً يجعلك وبكامل قواك العقلية تتحدث أيضاً براك تحاول أن تفرغ شحنة الغضب أو الأسف على فئة هي بلا شك مسؤولية الدولة بوزاراتها المعنية بعد أن تم رفضهم من أهلهم وبالتأكيد صعوبة التعرف عليهم لعدم إمكانية ذلك لظروفهم الصحية المعروفة. { فالمجانين الهائمون في شوارع المدينة بعد أن فقدوا التواصل مع أهلهم أو أفقدوهم السبل الطبيعية للتعامل، تحولوا الى هم آخر يضاف الى هموم ولاة الأمر وعبء كبير لا يتكفل أحد بحمله أبداً؛ خاصة إذا كانت شؤونهم تتعلق بالأكل والشرب والنوم، ولا تتحول الى حوادث جنائية يمكن أن تتسبب في قتل أو أذي جسيم لآخرين حملتهم شؤونهم بالقرب من المجانين. { والمفارقة الغريبة أن شارع مستشفى (التجاني الماحي للأمراض العقلية والنفسية) والمؤدي الى سوق أم درمان شارع العرضة من أكثر وأشهر الشوارع تزاحماً بالمجانين وبشكل مخيف جعل أصحاب (الركشات) يستفيدون من ذلك الخوف بتحويله الى موقف مواصلات يحمل الناس الى سوق أم درمان ويحميهم من هجمات المجانين ولا ريب المشردين الذين هم قاب قوسين من التلف العقلي بما يتعاطونه من مواد مهلوسة. { وأحداثيات جغرافية وجودهم في هذا المكان بالطبع لا علاقة لها من قريب أو بعيد بلفظ المستشفى لهم أو هروبهم منها، إنما بالطبع له علاقة بالحسنات التي يحصلون عليها من الزوار بجانب الأمن النهاري واللّيلي اللذين يمكّناهم من النوم والراحة والهدوء وهذا اجتهاد لا علاقة له بحيثيات حقيقة وجودهم المجهولة. { والقانون لا يضع أيّة مسؤولية جنائية على المختلين عقلياً إذا تمّ تورطهم في جناية مهما بلغ تعقيدها وفجيعتها حادثة مشهورة منذ عامين أو أكثر قام فيها مختل عقلياً بإصابة سيدة أدت لوفاتها بعد إسعافها بحوادث أم درمان.. والإصابة كانت في موقف مواصلات كبير بأم درمان. هذا السبب ولمعرفة الجميع أن (المجنون يدو عمياء) ولا تميز مكان ضربتها وكذا القانون الاجتماعي عينه عمياء ويده عمياء وأذنه كذلك. { فالتملُّص من المسؤولية الاجتماعية تجاه هذه الفئة بتمريرها بين الإدارات والوزارات والهيئات لا ينفي ضررها الاجتماعي البالغ الذي يحول سوقاً ما الى مجمع سكني مفتوح لهم يمارسون فيه حياتهم بما تيسر لهم.. ويزيحون بعد حين رواد ذاك السوق الى الشوارع الجانبية والبيع الهامشي الخارج نطاق السوق وفي ذلك ضرر آخر اقتصادي لا شك، ويحيل شوارع رئيسة ومباني الى مجمعات مخيفة لمجرد احتلالهم غير العاقل لها. { والشرطة التي اجتهدت ذات زمان في لم وجمع كل الفئات المشرّدة من مجانين وشماشة وفاقدي العون.. وإيداعهم في الأماكن المخصصة لهم من دور رعاية ومصحات تترك الآن الأمر برمته للجهات الرسمية المعنية بذلك لأسباب اجتهدت المنظمات الطوعية في تثبيتها بأنهم يجب ألاّ يعاملوا معاملة المجرمين أو المشتبه بهم الشيء الذي قد يفاقم من المشكلة ويجعلها تتخذ منحى آخر غير مستحب. { وحبلهم الآن على الغارب ومركبهم تتهادى على جوانب شوارع أم درمان بالذات بلا رقيب ربما لأن المنظمات انشغلت بقضايا أخرى أو الوزارة تهتم بفئات عاجلة الأهمية أو بالغتها.. وربما لأن الاختلال العقلي مؤخراً أصبح مرضاً يتكفل الفرد بتطبيبه دون الحاجة للخروج الى الشارع العام. { وعلى كافة أصعدته أنه مقلق ويحيل اتجاه الناس في عمومهم من مشاويرهم اليومية وخياراتهم التسويقية لعدم استيفاء شرط (المجنون في ذمة العاقل...) لأن اختلاطهم بلا حواجز هكذا جعلنا بذمّة مجنونة نتعقل بعدم الحديث. { جانبي: قالت لي سيدة أم درمانية عريقة: إن للبحر وزياداته علاقة بانطلاق قيد المجانين وهذه شؤون غيبية لا يجب الحديث بدون معرفة فيها.. فآثرت لسلامتي أن أؤيّدها في ذاك الجنون.