{ نزح إلى شمال السودان بعد اندلاع الحرب الأهليَّة في الجنوب عام 1983 أكثر من «ثلاثة ملايين» مواطن جنوبي، تكاثروا وتناسلوا في الشمال على مدى ربع القرن المنصرم. هكذا قالت تقارير الأممالمتحدة عام 2005م قبل توقيع اتفاقية السلام الشامل. { والثابت أنَّه لم يعُد إلى الجنوب خلال الخمس سنوات الماضية من عمر الاتفاقية، سوى بضعة آلاف من الجنوبيين، عاد معظمهم قافلاً إلى الشمال لعدم توفُّر البيئة المناسبة للعيش هناك من ناحية الخدمات والأمن والحريَّات السياسيَّة، في ظل قبضة وقهر الجيش الشعبي لتحرير السودان.. { وقد سألتُ شاباً جنوبياً يعمل في الخرطوم، من أبناء دينكا بحر الغزال، وكان عائداً للتو من الجنوب بعد قضاء عدة أشهر حاول خلالها الاستثمار في مسقط رأسه بأستجلاب وتشغيل «طاحونة» لتوفير الدقيق لأهله في بحر الغزال، سألتُه عن انطباعاته، فقال لي: (الأوضاع صعبة، وقروشي راحت في الطاحونة.. الناس جعانة، وأنا ضربتني ملاريا شفت فيها الموت.. وما راجع تاني)..!! { هذا الشاب «الدينكاوي» قرَّر مصيره وأسرته.. قبل الاستفتاء.. و(ما راجع تاني).. { والشباب والفتيات من الجنوب الذين تحلَّقوا مساء أمس الأول حول برنامج «الأهرام اليوم» بملاعب «كمبوني»، أكد معظمهم أنَّهم لن يعودوا إلى «جوبا» لأنَّهم تعوَّدوا على طبيعة الحياة هنا في الخرطوم، حتى ولو كانت لهم مظالم ومطالب. { والسؤال الذي يجب أن يسأله السيدان «لوكا بيونق» وزير رئاسة مجلس الوزراء، و«باقان أموم» الأمين العام للحركة الشعبية وزير السلام في حكومة الجنوب، هو الآتي: (هل تستطيع الحركة وحكومة الجنوب إقناع أكثر من ثلاثة ملايين جنوبي بمغادرة الشمال والعودة إلى الولايات الجنوبية استعداداً لاتِّخاذ قرار الانفصال عن طريق الاستفتاء أو عبر برلمان حكومة الجنوب؟!). { لا يرغب الجنوبيُّون.. أبناء هذا البلد الواحد، في العودة إلى الجنوب، على الأقل خلال الأشهر القادمة، وقد فشلت برامج العودة الطوعية التي نظمتها وكالات الأممالمتحدة قبل نحو عاميْن، فاعترفت لاحقاً بما أسمته (الهجرة العكسية) من الجنوب إلى الشمال لعدم توفُّر خدمات الغذاء، الماء، السكن، الصحة والتعليم. { لو كان الجنوب قد تحول إلى (جنَّة)، لتسامع بها الجنوبيُّون في الخرطوم، كسلا، بورتسودان وغيرها من مدن وضواحي الشمال، ولما تبقَّى جنوبي واحد في الخرطوم.. { لكن التصويت لخيار الانفصال، أو إعلانه من داخل مجلس تشريعي الجنوب - كما يهدِّد «باقان» - يعني عودة ملايين الجنوبيين المقيمين في الشمال في اليوم التالي مباشرةً لإعلان الانفصال، وهذا ما يجب أن يعلمه الإخوة الجنوبيُّون في الشمال والجنوب. { سيعودون بالقانون، أو تحت ضغط التحرُّشات والمضايقات والمواجهات الشعبيَّة من قبل الشماليين الذين - بالتأكيد - لن يقبلوا ولن يرغبوا في وجود (جنوبي واحد) في الشمال بعد ساعة واحدة من إعلان الانفصال. { فإذا أراد «باقان» أن يعلن الانفصال من داخل البرلمان، فليرتِّب حال حركته وحكومته لمواجهة هذه التحديات.. ولا أظن أن هناك شماليين بالآلاف.. مازالوا هناك في الجنوب بعد حملات الاستهداف للتجَّار الشماليين في «جوبا» وغيرها.. { نحن وحدويُّون، ولكنِّنا نحدثكم عن الواقع وتقديرات الموقف، وما أحداث (الثلاثاء) الأسود، ببعيدة عن الأذهان.. يوم أن حمل الشماليون أسلحتهم البيضاء وفتكوا بالجنوبيين في وسط الخرطوم وأطراف أم درمان وبحري وشرق النيل كرد فعل عنيف على هجمات الجنوبيين يوم (الأثنين) الموافق الأول من أغسطس 2005 . { والواقع الآن يقول إنَّه لم تُسجِّل محاضر الشرطة في الخرطوم وولايات الشمال أيَّة جريمة قتل أو أذى جسيم ارتكبها مواطن «شمالي» ضد مواطن «جنوبي»، أو العكس، انطلاقاً من مشاعر عنصريَّة، طوال السنوات الخمس الماضية، وقبلها العشرين، والثلاثين المنصرمة، باستثناء أحداث «الإثنين» و«الثلاثاء» الأسوديْن.. { التصويت لخيار الانفصال، أو إعلانه من داخل البرلمان، يستوجب إخلاء الشمال أولاً من الجنوبيين، وإلاّ ستتكرر (أحداث الثلاثاء) في كل شارع، كل حي، ومدينة وقرية من أصقاع الولايات الشمالية.. فالشعور الإنساني الطبيعي يدفع المرء إلى أن يرفض مَنْ رفضه، ويطرد من طرده، ويعادي من عاداه. { أمَّا أي حديث (سياسي) عن أن الأوضاع ستكون طبيعية بين الشمال والجنوب في حالة الانفصال، وأن المواطنين من الجانبيْن سيتحركون بحريَّة وأمان دون تأشيرات وجوازات سفر وإقامات، هو مجرد حديث ساذج لا محل له من إعراب الواقع والمفروض. { لابد أن تكون هناك إجراءات وجوازات سفر وإقامات، وشرطة حدود، وشرطة جمارك، وجيوش بريَّة وجويَّة على طول الحدود بين الشمال والجنوب، بعد ساعات فقط من إعلان الانفصال. { سنعمل من أجل وحدة بلادنا حتى آخر ثانية من عمر الاتفاقية، ونعتقد أن هناك أسباباً موضوعية كثيرة تستدعي (تأجيل) موعد الاستفتاء دون الالتفات لتهديدات «باقان» وزمرته (الانفصالية)، فقد تأجَّل موعد الانتخابات، والتعداد السكاني - وهما من بنود الاتفاقية - ثلاث مرات، فلماذا يصبح (موعد) الاستفتاء بقرةً مقدسة؟! { نعم.. سنعمل من أجل الوحدة، ولكنَّنا نطالب بوحدة قوية وراسخة، أو انفصال واضح يتحلَّل فيه الشمال من أيّ أعباء والتزامات سياسية أو اقتصادية أو أمنية، وهذا ما يجب أن يفهمه (الانفصاليُّون).. { إن تسيير التظاهرات والمسيرات (المصنوعة) في (مطابخ) الحركة الشعبية في «جوبا»و«الرنك» وغيرها للمطالبة بتعجيل الانفصال، هي محاولات للابتزاز السياسي الرخيص، لن تلقَى بالاً من أهل العقول الحصيفة، والضمائر الوحدوية النظيفة، وفي النهاية لا يصحُّ إلاّ الصحيح، سواء تأجل الاستفتاء أو قام في موعده المضروب، فقد اتَّفقت جميع الأطراف - محلياً ودولياً - على قيام استفتاء لتقرير مصير شعب الجنوب العام القادم. { فليعلم السادة الانفصاليُّون أن انفصال الجنوب لا يسبِّب ضرراً للشمال وحده، بل للجنوب بدرجة أكبر، فمازالت كلمات وزير الماليَّة والاقتصاد الوطني الأستاذ «علي محمود» ترنُّ في أذنيَّ: (قيمة السلع المستوردة للسودان تبلغ (11) مليار دولار، وعندما ينفصل الجنوب، ستنخفض الأسعار بدرجة كبيرة، لأنَّ سكان السودان سينقصون (6) ملايين مواطن)..!! { كم ألف طن من السكر يذهب من الشمال إلى الجنوب لصالح مصانع «البيرة» - كما قال وزير التجارة الخارجية القيادي بالحركة الشعبية - أو لحاجة المواطنين في الاستخدامات الأخرى؟!. { كم ألف طن من الدقيق.. والزيت.. واللحوم.. والأسمنت والسيخ.. و... و.... يصدِّرها الشمال إلى الجنوب بدون «جمارك»؟! { إمَّا أن نختار - جميعاً - وحدة يحقِّقها الجنوبيُّون أنفسهم ويكونون أحرص على المحافظة عليها.. أو انفصال كامل شامل بعيداً عن المشتبهات.. وتكرار أخطاء «نيفاشا» التى أخلت الجنوب من القوات المسلحة السودانية وتركته (ضيعة) للجيش الشعبي. { قاتل الله الانفصاليين في الجنوب والشمال.