أجراه: مزمل عبد الغفار إن العلاقة بين السلطة والصحافة مثل علاقة عناصر المركبات الكيميائية قد تنتج عنها درجة حرارة حارقة وفي الغالب تكون حارقة للصحافة وتبقى الدولة. فالحرية الصحفية كمفهوم ومعنى لا تبرُز بشكل جلي إلا من خلال معادلة أو مواقف تبرِز هذا المعنى الذي يراه الكثيرون إطاراً نظرياً.. فبعد مجيء مرحلة التعددية السياسية تكون هناك مطلوبات ومستلزمات مشتركة بين الصحافة كسلطة رابعة والحكومة والمعارضة، ولعلها مرحلة ستبرز فيها الصحافة كسلطة ويمكن أن تستقيم فيها النظرية التي أشرنا إليها «نظرية التفاعل الكيميائي» ذلك في أن تقود الصحافة الرأي العام في إطار المصالح الوطنية التي تعبر عن مجتمع أهل السودان ليسقط تشدد السلطة ومطامع وكيد المعارضة وتبقى الصحافة. وكما قال كتاب ومنظرون وفلاسفة إن التعددية السياسية هي تستمد وجودها من حرية الصحافة في المجتمعات الديمقراطية وأن الحرية الصحفية تمنح فرصاً متساوية لمؤسسات المجتمع التعددي لإيجاد التوازن الذي هو طابع أصيل للبناء الديمقراطي.. من كل هذا نرى أن التعددية الصحفية تستمد وجودها من حق حرية الصحافة وبالتالي تصبح جزءا من التعددية السياسية.. إذن ماذا عن الوظيفة الصحفية؟ وماذا عن القانون سيد الموقف في حسم القضايا الخلافية بين الدولة والصحافة أو المجتمع والصحافة؟ وماذا عن المناخ والحريات والتطور الملازم للصناعة الصحفية؟. مساحة من الحوار الرمضاني والبوح الشفيف والمواجهة الهادفة جمعتنا بالأستاذ العبيد أحمد مروح الأمين العام لمجلس الصحافة والمطبوعات الذي وضعناه على الكرسى الساخن في حوار ينشر على حلقتين حيث بدأنا هذه الحلقة بالسؤال: في ما يتعلق بالقيد الصحفي، هل سُحبت الصلاحيات هنا من المجلس وذهبت بكاملها لاتحاد الصحفيين؟ ليس مطلقاً؛ فالسياسات المتعلقة بالسجل الصحفي ومنح السجل توضع شراكة بين المجلس وبين الاتحاد، لكن الطرف الذي يمنح السجل الآن أو منذ بداية تطبيق قانون 2009م هو اتحاد الصحفيين أما نحن فنشارك في وضع السياسات. هناك من ينظر إلى مجلس الصحافة والمطبوعات على أنه جسم حكومي خانق للحريات وليس مساعداً على بسطها وإتاحتها، فمتى يتخلص المجلس من النظرة إليه كجهاز حكومي؟ هذه النظرة بسلوكنا العام يمكن أن نساهم في إزالتها ولكن أن يصنّف المجلس بأنه جهاز حكومي أو خانق للحريات فهذا ادعاء لا أحسب أن هناك دليلاً يسنده وهو ادعاء في الغالب من مؤسسات صحفية تتبع لقوى سياسية معارضة وتريد أن تقول ذلك. هل تعتقد إننا، جميعاً، قد وصلنا لأن نطبق شعار لكُلٍ حزبه والصحافة للجميع؟ لا، لم نصل لهذا الشعار بعد فما تزال السياسة تتدخل في كثير من تفاصيل العمل الصحفي، وما تزال هناك أخبار مدسوسة، دعنا نقول سياسياً، يتلقاها الصحفيون ويتعاملون معها هكذا دون تمحيص كامل، وما تزال هنالك قوى سياسية لها تأثيرها في الصحف مشاركة ومساهمة الى حدٍ ما. ولكن ما نتمناه هو الوصول لتطبيق شعار «لكُلٍ حزبه والصحافة للجميع» وذلك بأن يكون العمل الصحفي عملاً صحفياً مهنياً وأن تُمارس السياسة بعيداً عن ذلك. أصحاب الولاء السياسي للمؤتمر الوطني هم أصحاب القدح المعلّى عندكم؟ نحن ننظر للجميع بعين واحدة ولا نتعاطف مع طرف دون الآخر فالكل عندنا متساوون، وفي الأصل السياسة دخولها في عملنا ضعيف وبالتالي فكل الاتهامات التي تقول بأننا نتعامل من واقع سياسي معين هي اتهامات غير راشدة وغير مؤسسة. هل يمكننا القول، إذاً، إنكم تعملون بالسياسة بالقدر الذي يمكّنكم من خدمة العمل الصحفي ولا تعملون بالسياسة بالقدر الذي يمكّنكم من خدمة العمل السياسي فهل هذه المفردة صحيحة؟ نحن نعمل في وسط سياسي قطعاً وندرك تداخلات السياسة في العمل الصحفي إجمالاً وندرك أن كثيراً من المؤسسات الصحفية المتعاطفة مع قوى سياسية غير حاكمة تعاني من بعض المشكلات، وبالتالي فلو كنا نتعامل بالصرامة المطلوبة وفقاً للقانون لوقفت كثير من الصحف السياسة المعارضة، لكننا بسبب إدراكنا للسياسة والمرونة المطلوبة وطبيعة المرحلة التي تمر بها البلاد لا نُصِرُّ ولا نميل للتطبيق الصارم. على ذكر توقيف بعض الصحف في الفترة الماضية من قبل جهاز الأمن؛ هل نتوقع عودة الرقابة القبلية مرة أخرى في المرحلة القادمة حسب مقتضيات الحال؟ نحن على تواصل مع الجهاز عموماً ولا نحس أن هذه رغبة لديه، كذلك نحن نتواصل مع المجتمع السياسي مع وزارة الإعلام ورئاسة الجمهورية ولدينا منهم ما يؤكد رغبتهم في أن تُتاح للصحافة الحرية المطلوبة وأن تكون صحافة مسؤولة. عليه يظل التحدي أمامنا، كمجتمع صحفي وكمجلس، أن نكون بقدر المسؤولية والثقة التي منحونا إياها. هل أنت راضٍ عن الأداء الصحفي للصحف، سواء السياسية أو الاجتماعية أو الرياضية؟ لا، لست راضياً فانا أقول إن الخدمة الصحفية المقدمة في الصحف أقل بكثير مما ينبغي أن يُقدم والدليل في هذا ليس حالة مزاجية خاصة فهنالك تدنٍ في مقروئية الصحف فأكثر من (50) صحيفة تصدر في الخرطوم ولا توزع نصف مليون نسخة وهذا قطعاً لا يتناسب مع بلد سكانه (40) مليوناً. وضعف المقروء يعني أن المادة المقدمة غير جاذبة. ماهي الجدوى من إرسال الصحف للجنوب إذا كانت غير مرغوب فيها هناك، فماذا يفيد ذلك؟ الصحافة مهما كان الرأي في بعضها فهي أداة معلومات، ونحن في المجلس معنيون بأن ما يُضخ من معلومات في الصحف أن يصل بالتساوى لجميع السودانيين أين ما كانوا، والجنوب لأنه حالة خاصة حاولنا أن نستفيد من هذه الخصوصية حتى نقوم بتوصيل هذه الصحف للجنوب، وحينما يدرك القارئ من الجنوب، وهم ليسوا من الكثرة، أن الحكومة التي يعتبرها حكومة الشمال وينظر إلى الشمال وكأنه كتلة واحدة هي تتعرض للاستهزاء والنقد والطعن وما الى غير ذلك من أشكال السلوك فهذا يعطيه ثقة في أن السودان يمكن أن يصبح دولة حرة ومتعددة وديمقراطية وهكذا، وأيضاً يمكن أن يصبح هذا المثال على الجنوب نفسه ذلك في أن ننظر ما إذا كانت حكومة الجنوب تتعرض لهذا النقد الذي تتعرض اليه الحكومة في الشمال أم لا وهو أيضاً يعطيه الثقة في أنه يمكن أن يؤثر على الأداء التنفيذي والتشريعي. إلى متى سيكون مجلس الصحافة متمترساً في مهامه اللائحية والتنظيمية للمهنة فقط، أي لماذا لا يتقدم أكثر من ذلك بحيث يدخل عالم التطوير من خلال الدخول في استثمارات مثل جلب المطابع الحديثة والشروع مع الدولة في قيام مصنع ورق، فما الذي يمنعه من أن يتحرك بأكثر من ذلك لاسيما وأن مثل هذه الآفاق ترمى بظلالها إيجاباً على القطاع الصحفي وتؤمِّن احتياجات السودان، ونكرر ما المانع هنا؟ المجلس لا يستطيع أن يتقدم في هذه الناحية لأن قانونه لا يسمح له بذلك فهو يسّهل فقط، فالفلسفة الأساسية للدولة قائمة على إنها تخرج من القطاعات المنتجة وتتركها للمجتمع عبر المستثمرين ومن خلال المؤسسات، ولقد حاول المجلس، بالقانون، أن يفرض على الصحف أن تصدر عن شركات مساهمة عامة، وهذا في أوائل التسعينات، وكان الأمل أن تتراجع الأغراض الشخصية لصالح الأغراض العامة وأن الأفكار الاستثمارية والإدارية والتطوير تكون هي الأصل، وللأسف لم يستفد الناشرون من ذلك، ولقد تحايلنا نحن، كمجتمع ناشرين، على القانون، وصحيح الشركات وفّقت أوضاعها لكي تصبح شركات مساهمة عامة لكنها في الواقع لم تكن كذلك، فكانت شركات أسر وبيوتات وهذه واحدة من الإشكالات التي تعاني منها الصحافة في الوضع الراهن، والآن الملكية شبه فردية، أي شراكة محدودة الأسماء، وهذا ليس مؤشراً لقيام مؤسسة صحفية ناجحة، فالصحافة أصبحت صناعة مثلها مثل الصناعات الأخرى وينبغى أن تُضخ فيها استثمارات حتى تستطيع أن تنافس في المحلي والإقليمي. هل هناك لجنة لتفتيش الصحف لمراجعة السلبيات إن وجدت؟ هذا جزء أصيل من دور لجنة الصحافة في المجلس ونحن عازمون، في هذه الدورة، على الشروع في طواف على المؤسسات الصحفية لتفتيش أوضاعها من خلال الوقوف على الأوضاع الإدارية وعلى حقوق الصحفيين وميزانياتها المراجعة وتعاقداتها. هل تتفق معنا بأن موارد المجلس ضعيفة وبالتالي يمكن أن تكون في ظل شح الموارد الاستقلالية منقوصة، ما قولك هنا؟ الاستقلالية منقوصة إذا كان المجلس يتلقى موارده من جهات تؤثر عليه، فنحن نتلقى مواردنا من الرسوم التي أقرها القانون على الصحف ومراكز الخدمات الصحفية والمطابع ونتلقى منحاً من رئاسة الجمهورية وهذا مقصود في حد ذاته لأن رئاسة الجمهورية ليست طرفاً أو جزءاً من الجهاز التنفيذي، بالعكس فإذا كان هناك من انتقاد فنحن نقول إن قلة الموارد لا تمكّن المجلس من النهوض بمشروعات صحفية كبيرة تستطيع أن تحدث التغيير الكبير في الوسط الصحفي، فنحن نحتاج على سبيل المثال الى التدريب وفي التدريب نحتاج الى احتكاك والاحتكاك يتطلب أن نبعث صحفيين الى خارج السودان للإطلاع على تجارب الآخرين ولاستجلاب خبراء من الخارج للعمل في السودان وهذه ميزانيات ضخمة لا نستطيع أن نوفرها ولا نجد سنداً قوياً من الدولة في هذا العمل حتى الآن. ماذا عن ملف صحيفتيْ «الانتباهة» و«رأي الشعب»؟ هما أصبحا ملفين سياسيين أكثر من كونهما ملفين صحفيين، والمجلس لم يكن طرفاً في أي إجراء من هذه الإجراءات؛ فملف «رأي الشعب» ذهب الى المحكمة وهذا ما كنا نطالب به ذلك في أن يُقضي فيه والملف الآن أمام القضاء وبالطبع صدر الحكم الأوليّ وتم الاستئناف وقد نحتاج الى مراحل استئناف أخرى. أما «الانتباهة» فقد صدر فيها القرار السياسي والأمني بتعليق الصدور وهنالك محاولات من المجلس لفتح منفذ على الأقل في ما يتصل بهذين الملفين وإمكانية أن تعود صحيفة «رأي الشعب» أو «الانتباهة» بعد أن تكون قد اتَّعظت أيٌّ منهما من التجربة. لا نستطيع أن نقول إن الملف أُغلق تماماً ولا نستطيع أيضاً أن نقول إن الباب موارب، لكن نقول إن هناك جهداً نحاوله. فمن الغريب في موضوع «الانتباهة» نستطيع أن نقول إننا قد تلقينا مطالبات شبه رسمية من التنفيذيين في جنوب السودان ذلك في أنهم يفضلون أن تعود «الانتباهة» بعد أن تتخلّى عن بعض ما يعتبرونه إثارة لفتنة عنصرية أو دينية. تولّيت منصب الأمين العام لفترتين من الزمان، ماهي المحصلة والجديد بين اليوم والأمس؟ بالطبع الفترة الأولى كانت طبيعة المرحلة فيها مختلفة الى حد كبير؛ فلقد كنا في مرحلة الانتقال الأولى في حالة القبضة الكلية لطبيعة تشكيل المجلس، فكان المجلس كله قبل ذلك يُشكّل بينما صار الآن التشكيل عبر الانتخاب من الوسط الصحفي وكان دور الصحافة في الأساس هو التبشير بالتحوُّل السياسي القادم أو التعدد، ونعتقد أن الصحافة نجحت إلى حد كبير في ذلك ولكن تلك المرحلة لم تكن فيها صحف أو مؤسسات صحفية بذات الحجم الآن ولم يكن الصراع السياسي مفتوحاً كما هو الآن، فأنا ألمس اختلافاً ما بين التجربتين ونضجاً أكثر مما كان في التعامل مع قضايا الصحافة ومشكلاتها.