الحوار مع رجل بقامة السيد الإمام الصادق المهدي له طعم خاص، فالرجل يجيد الاحتفاء بالإعلاميين والصحفيين كما يجيد إدارته السياسية وعرض رؤاه وتصوراته، ويدير حزبه بنشاط وحيوية مستصحباً معه عصارة إمكانياته الفكرية والمعرفية لتشريح الحالة السودانية وتقديم الحلول. حيث ظل لأكثر من أربعين عاماً متنقلاً في فضاءات العمل السياسي دون أن توهن عزيمته كما فعلت بآخرين، ينهض من تحت رماد الأزمات التي طالت الآن حزبه وجعلت الناس يتحدثون عن الانقسامات والتيارات والتردد في المواقف فيما ظل الإمام يبتعد ويقترب من هذه الأطراف بحسب قربها من أجندة الوطن أو كما يقول. «الأهرام اليوم» جلست مع الإمام الصادق في حوار تناول رؤيته للراهن وتوقعاته للقادم السياسي، فماذا قال؟ ٭ حزب الإصلاح والتجديد برئاسة مبارك الفاضل كانت له مطالب محددة، ألم يكن من الممكن الموافقة على هذه المطالب؟ هذا القرار مؤسسي وهذه المسألة تطاولت وأخذت محطات كثيرة جداً وصارت هناك ضرورة لوضوح الرؤية، لذلك تداول المكتب السياسي هذه القضايا وأصدر بيانات ولم يعد هناك كلام حول هذه القضايا إلا إذا جرى قبول لرأي المؤسسة. ٭ كذلك قيل إن هناك حواراً يدور مع التيّار العام؛ رغم حديث المكتب السياسي عن أنه أغلق هذا الباب؟ لا يوجد حوار فوق رأي المؤسسة، أي حوار يجري يكون في إطار المؤسسة والدستور، وليس هناك مانع أن يكون هناك حوار مع أي طرف من الأطراف، فقط المهم أن يجري وفقاً لأُطر الدستور والمؤسسة. ٭ أليس هناك حوار الآن بينكم والتيّار العام؟ توجد لجنة لحوار وهناك اتصالات لكنها ليست على حساب المواقف المبدئية، والاستعداد موجود لبحث أية قضية مع أي طرف في حزب الأمة على أن يكون أساسها منطلقاً من بيان المكتب السياسي. ٭ كذلك لاحظ الناس تناقضاً في المواقف بين ما أصدره المكتب السياسي حول الحوار مع التيّار العام وما يقوم به رئيس الحزب من تكوين لجان للحوار معه؟ لا يوجد تناقض. المكتب السياسي أصدر بياناً وكل ما يجري الآن مستند على بيانه. لكن أنا لا أدري لماذا ينشغل الناس بهذه المسألة مع أن قضايا البلد الخطيرة موجودة. القصة ليست أن حزب الأمة يتَّحد أم لا، القضية هل سيكون السودان موحَّداً أم غير موحَّ؟! ٭ وحدة الأحزاب ربما تقود إلى توحيد الرؤية حول ماهو مطروح من قضايا، أليس كذلك؟ وحدة الأحزاب كوحدة صف لا معنى لها، لابد أن تكون هناك وحدة هدف، تنطلق من تحقيق السلام العادل والاستقرار في دارفور، يجب أن نعطي أولوية لقضايا البلد القومية التي تسير نحو منحنى خطير. أعتقد أن ما يجري داخل الأحزاب مسألة انصرافية، والمهم الآن هل لدى هذه الأحزاب رؤية اجتهادية لتحقيق السلام والتحوُّل الديمقراطي أم لا، هذا هو السؤال المشروع. ٭ يرى كثير من المراقبين أن ابتعاد التيّار العام من حزبكم كان على حساب قواعدكم في دارفور وجنوب كردفان وأبيي لاسيما أن معظم قياداته لها علاقة بهذه المناطق وعلى حساب مبادراتكم؟ لم يأخذوا منّا شيئاً، مازال موقفنا واضحاً في هذه القضايا وحزبنا الوحيد الذي يمتلك رؤية لحلها. ٭ كل الرؤى التي صدرت مؤخراً كانت عبارة عن مقترحات قدمها رئيس الحزب؟ أبداً، كل هذه الآراء جرى بحثها داخل مؤسسات الحزب ولجانه وأجهزته وكانت تمثل رؤية الحزب وليس رئيس الحزب، أنا لديّ رؤى أبادر بها داخل الأجهزة وتخضع للدراسة وأحياناً للتعديل ثم يتم تبنيها، فإن كانت لديّ اجتهادات تُعرض على الأجهزة للقبول والتعديل. ٭ لكن كثيراً ما تتحدث مؤتمراتكم الصحفية عن مقترحات وأفكار تخص رئيس الحزب وتقدَّم من قِبلكم، ألا تتقاطع مع سياسات الآخرين في حزبكم؟ صحيح لديّ آراء في المجالات الفكرية والثقافية والأدبية غير مربوطة بقرارات الحزب، وهناك مقالات وكتب منسوبة لشخصي، لكن كل الأشياء التي تمثِّل سياسات الحزب تأتي نتيجة لقرار، ولا أعتقد أنها تتعارض مع السياسات المقررة لكن تتَّسم بطابع المبادرة والاجتهاد. ٭ ماذا عن قضايا شؤون الأنصار؟ كذلك بالنسبة لهيئة شؤون الأنصار، فأنا لا اشتغل على أساس الوصاية وإنما أهتم بالعمل المؤسسي، لذلك أية رؤية لي، في أية قضية من القضايا الأنصارية والدينية، تخضع لمناقشة في هيئة شؤون الأنصار ويتم تمحيصها من خلال عقد الورش ثم بعد ذلك يُتخذ القرار، وكل أمر متعلق بقضايا الأنصار مهما كان اجتهادي الشخصي فيه، كإمام للأنصار، لا أطرحه إلا بعد مشاركة الأجهزة المعنية ٭ لكن مؤخراً كل الذين غادروا الحزب وجمّدوا أنشطتهم تحدثوا عن عدم وجود شورى ومؤسسية في الحزب؟ أنا أهتم باسمي ودوري لتعزيز فكرة التجربة الديمقراطية، فلا يمكن أن أفرّط في ذلك ولا يستطيع أحد أن ينكر، إلا مكابر، أن قراراتنا السياسية هي قرارات مؤسسية وديمقراطية وقراراتنا الأنصارية طابعها شوري بعيداً عن الرؤى الانفرادية. أنا لديّ رؤى كثيرة لكن إذا كانت مرتبطة بالمسائل السياسية والأنصارية فلابد أن تمر عبر الأجهزة المعنية لأنني من أكثر الناس حرصاً على المشاركة. ٭ قلت إن لديكم رؤية لحل مشكلة دارفور، ماهي ملامح هذه الرؤية؟ لدينا رؤية واضحة لحل مشكلة دارفور كانت أساساً لورشة عُقدت مؤخراً وأصدرت توصيات محددة، هناك تراكم لرؤى وأعتقد أن وثيقة (هايدلبيرج) استطاعت أن تجمع ما تمخَّض من المؤتمرات والورش السابقة، هذه الوثيقة تمثل مَعلماً واضحاً لحل مشكلة دارفور. ٭ إذن أنتم تتبنَّون هذه الوثيقة؟ نحن رأينا ألاّ نتعامل مع الوثيقة باعتبارها مُنزّلة، لكن نعتبرها بداية طيبة حتى لا نبدأ من الصفر، ونتَّخذ من هذه الاجتهادات إعلان مبادئ ونعتقد أنها تلبِّي مطالب أهل دارفور المشروعة، ثم قلنا يجب أن تكون هناك آلية جامعة تجمع الفصائل الدارفورية السياسية والمسلحة والقبلية والمهجرية والنسوية والمدنية. ٭ ماذا بشأن الوسطاء؟ قلنا يوجد تضارب بين الوسطاء؛ فهناك اجتهاد يقوم به امبيكي ودولة قطر ومصر وليبيا وتشاد وإرتيريا، لكن ينبغي أن تكون آلية الوساطة موسَّعة بقيادة امبيكي باعتباره ممثلاً لأفريقيا بدعم من الاتحاد الأفريقي ويفتح الباب لأصحاب المبادرات الجادة وفي مقدمتها مجهودات الدوحة والدول الإقليمية الأخرى، وهؤلاء يكونون شركاء للوساطة وهذه المسائل تحتاج إلى إرادة سياسية، لكن فوجئنا بما يُسمَّى بالإستراتيجية الجديدة لحل مشكلة دارفور. ٭ أليس من حق الحزب الحاكم البحث عن طريقة جديدة لحل مشكلة دارفور؟ من حقه كحزب حاكم أن يبحث عن إستراتيجية جديدة، لكن هذه الإستراتيجية تركّز على ضرورة تحقيق الأمن والتنمية والخدمات وهذا أمر مشروع لكنه يتطلب حلاً سياسياً، وللأسف الإستراتيجية تفترض إمكانية الدوران حول قضية الحل السياسي وهذا غير ممكن وتقوم على تغييب مشاركة القوى السياسية والمسلحة وهذا ينتقص من وزنها، وعلى وهم أن ممثلي دارفور الحقيقيين هم الذين أفرزتهم الانتخابات لذلك الإستراتيجية لم تتجاوز حدود العلاقات العامة. ٭ بعض الناس ربما يرى أن بدايات هذه الإستراتيجية أدّت إلى هدوء الأوضاع الأمنية في الإقليم؟ بعض منسوبي المؤتمر الوطني يرون أن الأمن يعني تفكيك معسكرات النازحين كما حدث في معسكر «كلمة» وقاد الى نزاع. ٭ ألا تعتقد أن زيارة والي جنوب دارفور لمعسكر «كلمة» كانت بمثابة بداية للتفاهم بينهم وقاطني المعسكر؟ أبداً، الذي حدث هو لقاء في طرف من أطرافه مع مجموعة محدودة من قبيلة «البِرْقِد» وليس كل المعسكر. هذه المعسكرات أصبحت تمثِّل مشكلة سياسية وحلّها لا يتم بتفكيكها بالقوة، والأولوية حسب الأطراف الأخرى لنزع الأسلحة من المليشيات، لكن هناك من يرى في حزب المؤتمر الوطني أن الأولوية الأمنية لتفكيك المعسكرات؛ لأن هناك جماعة استقرت في أراضي النازحين، الأولويات الأمنية نفسها مختلف حولها والحال كذلك بالنسبة للمسائل المتعلقة بالتنمية. ٭ ماذا تقصد بالمسائل التنموية؟ كان هناك اتفاق مع أركو مناوي جسّدته اتفاقية أبوجا واشتمل على جوانب تنموية ولم تُنفّذ، والأخطر من ذلك أن مناوي وجماعته يعتقدون أنه رئيس للإدارة الانتقالية في دارفور، لكن مؤخراً صار هناك رأي آخر هو أن الإدارة في دارفور لمن انتخبهم المواطنون من الولاة، وهذا الأمر خلق تناقضاً بين أبوجا ونتائج الانتخابات الأخيرة، وأبوجا نفسها أُطيح بها والإستراتيجية الجديدة لم تفتِ في الأمر، وهذا الموضوع أحد نتائجه وجود خلاف داخل السلطة حول تنفيذ أبوجا بين من يرون أن مناوي يكون كبير مساعدي الرئيس لكن ليس رئيساً للسلطة الانتقالية ومن يرون غير ذلك، فهذه مسائل كبيرة لا يمكن أن نتحدث عن إستراتيجية جديدة ونتركها. ٭ على ضوء اختلاف القوى المعارضة والمؤتمر الوطني حول إيجاد صيغ للتوافق على رؤية موحَّدة لتعزيز خيار الوحدة؛ ماهي قراءتك للمستقبل على خلفية ما تمَّ طرحه حتى الآن؟ أعتقد أن حزب المؤتمر الوطني يتبنَّى فكرة الدعوة للوحدة من منطلقاته، وكل المحاولات التي جرت لجعل الدعوة قومية باءت بالفشل. أما الحركة الشعبية، فمنذ اجتماع الشهر الماضي بجوبا، صارت تتَّجه نحو الدعوة للانفصال في الجنوب، والآن الدعوة للانفصال صارت مطلباً قومياً تؤيِّده كثير من القوى حتى التي كانت وحدوية مثل حزب سانو. طريقة الدعوة للوحدة في الشمال قادت إلى تعزيز الدعوة للانفصال. ٭ كيف؟ مثلاً بعض التيّارات في الشمال تتحدث عن أن تقرير المصير خيانة وهو مُضمَّن في الدستور، وبعضها الآخر يتحدث عن أن لا خيار أمام الجنوبيين غير تأييد الوحدة، فهذا الحديث غير صحيح، هناك لغة مستعملة بين القوى الوحدوية في الشمال أعتقد أنها مُنفِّرة، ونتيجة لهذه المنطلقات التي تُنفِّر وتُخوِّن فكرة الانفصال وتقرير المصير تحوَّل الهدف من الجنوب إلى مفاهيم جديدة وخطيرة وهي قولهم إن العلاقة بين الشمال والجنوب استعمارية والجنوب سيصوِّت لإنهائها وللاستقلال وليس الانفصال، والمكتب السياسي للحركة الشعبية طرح فكرة لا مكان للوحدة ما لم تكن الدولة السودانية الموحَّدة علمانية وهذا تعريف جديد لشروط الوحدة، وعلى ذات النمط كان مؤتمر القساوسة الكاثوليك بجوبا، وهذا يعني أننا أمام حالة استقطابية قائمة على المواجهة.