الإغداق الثري الذي تمنحني له مهنتي بالتمعن عميقا في الكلمات وما جاورها من معاني، يجعلني لا أقلق من كلمة أبدا، وأضع المعنى الآخر لها كما أحب في جوار ما يريده القائل فيغني كل منّا لمعناه.. وتبقى الكلمة مفتوحة على تأويل لا ينتهي، بانتهاء الحديث الجاد أو الهزلي المختوم بالقرقرة، وهي واحدة من تصريفاتها، وتعني الضحك ذو عافية الفرح والمرح في أي لغة. ولا أعرف لغويا ما المعنى من (القرقور)، فالسمك، الذي في الموردة، يطالب بملكيته الفكرية للتسمية دون غيره مهما التصق بهم فعل القرقورية. (القرقور) كنوع من أنواع الأسماك المشهورة في السودان، يتميز بصفاته الطاعمة والخطيرة التي جعلته من أصحاب التميز السمكي في المائدة إن كان على شكل حلة شوربة أو دمعة أو بفتيك وكفتة من صافي لحمه الطاعم، ولا يختلف اثنان في طلبه لذلك، لكن مع ذلك يستطيع (البلطي) منافسته وسحقه (كقرقور) قوي الشكيمة والشوكة التي يمكن أن تقف في الحلق لا تبلع لا تفوت إلا (بلبعة قوية) أو تخرج كوحمة في جسد ابتدأ تكوينه باشتهاء أمه سمكاً (قرقور)! ولا يوجد شك أن سمك (القرقور) هو صاحب الشهرة الأوسع في الموردة الحي، كمكان متميز بسوق السمك وكأثر تأريخي عظيم في خارطة الجغرافيا السودانية، بغض النظر عن تأريخه كمورد كان يتم منه تصدير البشر إلى خارج السودان - زمان الطمع القديم في البلد من خارج ناسه - فإن فريق (الموردة) لكرة القدم، تحببا في قوة (القرقور) في صراعه مع الأسماك في النهر والنار، فقد أطلق عليهم ذات الاسم جمعا لكل تلك الصفات، حيث كان فريقا لايستهان به في ميادين أي دوري وبطولة، متميزا على ثنائي القمة (الهلال والمريخ) بجمعه لونين منهما - الأزرق والأحمر معا - وبجمهوره الثابت بالهلب في المواقف المؤمن بفريقه والعازم على النصر معه في كل بطولة، لأنهم يعرفون أن ( القراقير) لا يقف في وجههم صير.. والصير صغار السمك طبعا! وطبعا كما نهاية كل قصة سعيدة، تفرق (القراقير) في كافة مجاري الحياة يبحثون عن مكان آمن في سوق الحيتان الكبيرة التي تشتري السمك لتزين به صالوناتها، وليس لتطوير تجارة السمك أو كرة القدم! والسمك، له منافس في التسمية تلك من (القرقور) النبات البحري المعروف الذي يدس خلسة موجة من البحر فيه، لينقلها لناس البر حينما يتمرد على مالح مائه نغماً يمتع آذاننا كلما قربناها من فمه الثرثار بأسرار الموج والبحر، وهو في ذلك ألهم صانعي العطور ليكون تشكيلا لقارورة عطر تخبئ بين زخات عبيرها موج البحر، وتسرق صورة (القرقور) ليكون مفتاحا لغطاء أسرار العطور..! والبنات يرششن جو الحفلات بتفاصيل الصفات التي يعشقنها في فرسان ميادين عشقهنّ المباح، فيغنين لمستر تقديره ( قرقور): ( القراقير متعة، والباقي غيرهم صنعة!) والمتعة هنا مطلق الحلاوة والطلاوة التي يبرع فيها الشباب المسمى (قرقور)، وغالبا يعتقد أبناء الموردة دون غيرهم أنهم هم أصحاب اللقب الملوكي هذا، ولاريبة المعنيين بالمتعة، من اللون (الأخدر) المفضل دوما في الأغنيات ! والزي الأنيق والحديث اللبق، ومعرفة ما تريده البنات من اهتمام وعسل الكلام، والهدايا والغرام، وعزومات الطعام..! ومن يحاول تقليد (القراقير) لنيل رضا قلوب البنات حتما سيقع في دائرة سلطات البضائع المضروبة في سوق العشق، وستفوح رائحته بين البنات عبر الأغنيات والونسات بأنه بدعة وصنعة مقلدة لا تشترى ! (نتفق أن الموردة كشارع مميز يسكن على جانبيه النيل والفضاء السوداني الجميل، وتستلقي فيه عرائس الأمكنة الراقية، وسوق السمك الشهير، يحتاج الى قزازات كولونيا بحجم قرقور كبير، تدلق عليه لتغير طعم جوه الغريب!) ولن ينكر عليه ناقد، طلاوة صوته الجاذب للأغنيات وجرأته الثابتة في طرحه لأغرب القصائد والموضوعات عبر الأغاني المثيرة للجدل. ناهيك عن لقبه الذي اختاره ليكون اسمه الفني المطروح في قائمة الفنانين الشباب بأنه (قرقوري) يغني بطرب مميز وإن اختلفنا في حيثيات الأغنيات، يضحي باسمه كاملا لينعم بميزة اللقب الكبير ويسجل به هدفا مشروعا في الاختلاف والتمايز عمّن معه باللقب قبل الحنجرة والطرب. وطلب السمك (القرقور) ارتفع سعرا لزوم ارتفاع مناسيب النيل، وقلّ الطلب عليه، لزوم الشهر الكريم، فالسمك، كما يشاع، يصيب الجوف بالعطش، فقليلون من يضحون بالعطش جدا مقابل لقمة طرية من وجبتهم المفضلة (القرقور) الطاعم، وكذلك قلّ الطلب على ( قراقير) الرياضة حيث أضحوا مستوردين، وارد الخارج بغض النظر عن المتعة الكروية التي يبرعون في رشها على النجيل (الأخدر) أو الميزات المختلفة التي يطربون بها حفلات الميادين والبطولات الداخلية والخارجية.. وصرنا نستعيد العطر واللحن والنجومية والحلوة من ذكريات الملاعب ووجوه الكباتن السابقين! ومسبقا طبعا تعرفون أن الروائح كذلك تبدلت، وتعطرت بنكهات غريبة عنّا فصارت (اللمبادا) ترقص على الجلد السوداني بلا حياء من عطر سوداني أصيل، أو قل تميز في السودان(كالصاروخ) و( فرير دمور) و(سوار باريس)..! هو قياس مختلف بين كل (قرقور) وآخر إن كان صالحا للأكل أو العطر أو اللعب أو الطرب، ويبقى القاسم المشترك الأكثر بينهم أنه مذاق خاص، وصنعة للسودان في منتهى المتعة!!