المتأمل لهذا العنوان، تستبق إلى ذهنه أسئلة عديدة.. هي ماذا يعني الكاتب بالسلوك الحضاري؟ ولماذا اختار هذا الموضوع وربطه بالعاملين بالدولة؟ وهل حقاً ينقصنا السلوك الحضاري في الممارسة الإدارية والوظيفية، وإن كان ذلك كذلك فكيف يمكننا تطبيع العاملين بالسلوك الحضاري والقيمي؟ وماهي أهمية الاهتمام بالسلوك وفائدته في دفع عجلة التنمية والإنتاج والأداء المتميز إلى الأمام؟ وللإجابة عن هذه الأسئلة، أجد نفسي مضطراً للعزف على أوتار حساسة، وربما تكون أنغامها شجية وعذبة لبعض، وخلاف ذلك للبعض الآخر.. ولكن مهما يكن الأمر فلابد مما ليس منه بُد، ولابد من وضع النقاط على حروف مفردات هذا الموضوع الحيوي بصراحة وشفافية، ولابد من الاعتراف أن السلوك الحضاري والإداري للعاملين بالدولة قد اعتراه الإعياء والفتور، وكاد أن يندثر وتحل محله سلوكيات جديدة لم تكن موجودة من قبل، ولم تشبه أخلاقيات وشِيم الشعب السوداني المعروف بالقيم النبيلة والمتصف بالمروءة والشهامة والإباء والإيثار والتفاني والإخلاص في العمل، ولحسن الطالع ما أقررته آنفاً وقلته في الأسطر السابقة لا ينسحب على كل العاملين بالدولة، بل هي لازلت موجودة ومنتعشة لدى الغالبية، لذلك لسنا في موضع نقد لهذا السلوك ولسنا بصدد تناوله بالذم والتقريع، إذ أن ديدننا في معالجة الأمور هي الحكمة والموعظة الحسنة والقول الليّن، وذلك ليس إيثاراً للعافية، بل إحتياطاً وتفادياً للمساس بكرامة الآخرين. وأعني بالسلوك الحضاري، أن يتخذ العاملون بالدولة خشية الله في الأداء الوظيفي والإداري والخدمي ديدنهم، وأن يضعوا مصلحة المواطن نصب الأعين، وأن يتخذوا العدل لبنة قوية تُبني عليها القرارات والتوجيهات المتعلقة بمستقبل الآخرين، والعمل بحكمة (لا ضرر ولا ضرار)، لمساواة العاملين في الحقوق والواجبات.. ولا يتأتّى ذلك إلا بإبعاد الأمزجة الشخصية الغير معتدلة عند التعامل أو الحكم على الآخرين، وعدم تطويع انتهاز الثغرات القانونية الموجودة في اللوائح والبنود المنظمة للعمل الإداري والتي تجعل مصير ومستقبل وحقوق ومصالح الآخرين في أيدي من هم أعلى منهم في الرتبة، بحيث لا يستطيع الآخرون المطالبة بحقوقهم للأسباب التي ذكرتها آنفاً، وكذلك من الضروري جداً أن يتصف العاملون بالدولة بالسلوك الحضاري والقيمي عند التعامل مع الآخرين، وأن يبذلوا قصارى جهدهم لقضاء حوائج الناس في الدواويين الحكومية، وذلك أن الموظف الحصيف والعالم المخلص هو الذي لا يؤجل عمل اليوم إلى الغد إلا لعذر منطقي أو سبب خارج عن الإرادة أو تأخيره بغرض الجودة والإتقان، وأن يجتهد ما وسعه الاجتهاد لاتخاذ القرارات المناسبة التي تصب في صالح الأفراد في أسرع وقت. كذلك الذين يقومون على أمر العلاقات العامة ومكاتب الاستقبال والاستعلام والسكرتارية أن يتحلّوا بالسلوك الحضاري والقيمي مع الزوار وأن يسعوا لاستقبالهم بروح طيبة، ووجه منبسط وثغر باسم وأسارير منفرجة، وأن يقضوا حوائجهم بالإجابة السريعة على استفساراتهم وأسئلتهم بأسلوب حضاري متقدم، أو الاعتذار لهم بنبرة هادئة وعبارات سلسلة إذا كان من يقصدونهم على سفر، أو في اجتماع، وكذلك على الزوار التحلي بالسلوك الحضاري عند النقاش مع موظف الاستقبال وأن يقضوا حوائجهم دون اللجوء إلى عصبية أو حمية جاهلية أو خروج عن الطور فالإداري العادل، والموظف الشفاف، والعامل المخلص، هو الذي يقضي حوائج الناس وهو يستحضر في ذهنه تقوى الله تعالى واضعاً في الحسبان حب الوطن وتقدير الزمالة، واحترام المواطنة المشتركة في البلد الواحد.. فلا يطيل الحديث بالتلفون والمواطن أو صاحب الحاجة يقف أمامه فترة طويلة من الوقت.. وألا يؤخر أغراض الناس لأسباب غير منطقة ولا إنسانية، وألا يكون سبباً في إلحاق أي ضرر أو ضياع مستقبل أو تفويت فرصة نادرة لشخص أراق ماء الوجه لتحقيق ما يصبو إليه، وألا يغضب أو يستاء أو يمتعض، إذا ألحّ صاحب الحاجة في الطلب، وألا يتلفّظ بألفاظ جارحة أو كلمات نابية توغر الصدور وتولِّد الحقد في النفوس، وألا يفرّق ولا يميّز بين الناس إذا أوكل إليه أمر لجنة ترقيات أو اختيار للوظائف أو أي مهام تتعلق بحقوق ومصالح الآخرين، وألا يتخذ من إجراءات اللجنة وسيلة لتأخير أو قتل وإلغاء المهمة التي كُلّف بها، وأن يجتهد ما وسعه الاجتهاد لاختيار المتقدمين للوظائف بالكفاءة والجدارة والخبرة والخُلق القويم والسيرة الطيبة. فلا يمكن أن يتطور الأداء الإداري، ويرتقي السلوك الخدمي ويتحقق الرضى الوظيفي إلا بحمل الناس بالتحلي بالسلوك الحضاري المستلهم من إرادة الخالق، ومناهج الرسل وسيرة السلف الصالح. ولاشك أن المنوط بتحقيق ذلك هي المؤسسات والوزارات الإرشادية والتوعوية والثقافية، ولا يتسنى لهذه المؤسسات أن تعالج هذه الظاهرة، إلا بشحذ الهمم، وحشد العلماء والباحثين لإعداد بحوث جادة، تُدرّس وتلاحظ وتستنبط السلوك عن كثب ثم ابتكار برنامج توعوي طموح لغرس السلوك الحضاري للعاملين في الدواوين الحكومية وذلك بالطواف على الوزارات والهيئات والمصالح، وإلقاء ندوات ومحاضرات تنويرية عن السلوك القيمي والروحي والحضاري في الأداء الوظيفي والإداري والخدمي.. فهلاّ استجابت الجهات المعنية لهذا الأمر وترجمت مثل هذه البرامج على أرض الواقع لينعم الجميع بالعدل والإنصاف والأمن والطمأنينة؟