ما أقبح الانطباع المسبق قبل المعايشة، وما أسوأ الأحكام الظالمة قبل المعرفة اللصيقة، أو التعامل عن قرب. كثيرون نصدر ضدهم أحكاماً قاسية، وذلك قبل سماع المرافعة، أو قراءة الحيثيات، تفاجئنا دوماً النظرة الأولى نحو شخص ما، وسرعان ما نقيم الحواجز والسدود، ونغزل خيوط الجفاء والصد نحوه، نفعل ذلك من خلال تلك النظرة الخاطفة الأولى، ودون أن نملك بين أيدينا أي برهان يثبت صدق حدسنا، أو دليلاً يؤكد سلامة توجسنا. إن الانطباع الأول نحو الأشخاص وغيرهم من الأمور الأخرى قد لا يكون سليماً وصائباً، وكم من زهرة متفتحة بألوانها الساحرة واليانعة تبدو جميلة تسر الناظرين، ولكن عند الاقتراب منها، ولمس أكمامها، نجدها ويا لهول المفاجأة، أنها زهرة اصطناعية رغم نضارة أوراقها. إن ملامح الإنسان، وتقاطيع وجهه ليس بالضرورة أن تعبر عن مكنونات ودواخل حاملها، قد تبدو لك القسمات صارمة وحازمة منذ الوهلة الأولى مما يجعلك تتوجس خيفة، ولكن سرعان ما تكتشف أن البوصلة أخطأت الاتجاه الصحيح، وأن هذه القسمات يزغرد في أعماقها قلب طفل، وتحفها رقة فنان يرسم بريشته منظراً لإطلالة شمس الصباح، هذا الوجه الذي تم الحكم عليه مسبقاً، تستيقظ أشجانه وتشتعل مشاعره كلما اقتربت منه أكثر واتسعت بينكما مساحات الود والإلفة والتفاهم. كثيراً ما يخدعنا المظهر الخارجي لشخص ما، ومن فرط انبهارنا بهذا المظهر الزاهي نشعر وكأننا داخل حديقة تنساب جداولها مياه رقراقة، ويشدو فوق أغصانها طائر الكناري بصوته العذب الرخيم، ولكننا نكتشف أن كل هذه «الأبَّهة» مجرد ديكور وأن الذي أمامنا رجل تسكن في شرايينه شهوة الأنانية وحب الذات وأذى الآخرين. هناك بعض الوجوه اتخذت من سماحة الإسلام ونقائه سلماً وطريقاً لخداع الآخرين واستغلالهم، الملامح يكسوها الوقار والسكينة، والوجه زانته لحية شهباء خفيفة، واللسان مدرب على حلو الحديث، واختيار المفردات التي تهز المشاعر، وتلامس شغاف القلوب، ولأننا شعب ذكي عجمت عوده التجارب، سرعان ما يشم رائحة النفاق الأجوف التي تطل من فمه، فينصرف عن هذه الملامح التي لم تحترم عقولنا وتجاربنا التي تلقيناها من خلال مدرسة الحياة العريضة. وفي الجانب الآخر هناك أيضاً بعض الوجوه التي تبدو مرحة وطليقة وتتميز بالابتسامة الدائمة والتعامل الإنساني الراقي وتحمل بين طياتها عفوية مجردة، وطيبة متناهية وعندما تلتقي بصاحب هذه الملامح تحس وكأن هناك صداقة قوية تربطك به، هذا الوجه يعتقد البعض ومنذ الوهلة الأولى ونسبة لبساطته وانفتاحه على الآخرين، أنه سهل الاختراق، ويمكن الإبحار في مياهه الإقليمية في سهولة ويسر، ولكن، وعند الاقتراب من شواطئه الدافئة يطل وجه آخر مشحون بالصرامة والحزم والشدة، حقاً، بعض الملامح تظلم أصحابها، فاحذروا غضبة الحليم. وعلى الشاطئ الآخر، فتاة، ملامحها تضيء القلب بالفرح، متفائلة دوماً، لا تطيق الأغلال والقيود، خصلات شعرها الفاحم تعبث بوجها الطفولي النضير، تداعب هذا، وتلاطف ذاك، تطلق القفشات البريئة وسط زميلاتها في المكتب، ولأنها نشأت في جو صحي وتربية معافاة، فإن تعاملها مع الجميع يتم بقدر كبير من السماحة والبراءة ودون ترك أي آثار جانبية للظنون والهواجس في نفوس الآخرين. ذات يوم حاول أحد زملائها في العمل، الذي وجد نفسه بينهم حديثاً، هذا الرجل حاول أن يغازلها بكلمات لم تحترم كبرياءها ولا نضوج عقلها، ولأنه قليل المعرفة في كيمياء النفس البشرية، فقد لقنته درساً بليغاً في الأخلاق بصورة أدهشت الحضور، بل أصابت صاحبنا بالذهول والرعب وجعلته يتسلل في هدوء بليغ خارج المكتب، التفّت حولها صديقاتها في محاولة لتهدئة خواطرها الثائرة، ولكن، وبابتسامة بدأت تتراقص بين شفتيها قالت لهن: «إذا رأيت نيوب الليث بارزة فلا تظنن أن الليث يبتسم». ألم أقل لكم إن الانطباع الأولي ليس كافياً للحكم نحو الأشخاص والأشياء؟ وأن القسمات التي تحمل علامات الطيبة والبساطة والعفوية سرعان ما تتحول إلى وحش كاسر وأسد هصور؟ لا سيما إذا أحييت أوتار مشاعرها بما يسيء إليها أو يهز مكانتها، وفي لحظة عجلى تفرج عن قدر هائل من الغضب والثورة والانفعال. حقاً إن كثيراً من الملامح تظلم أصحابها، لهذا فإن السرعة في إصدار الأحكام حول هذه الملامح تقودنا إلى العديد من المزالق والمآزق والمشاكل، دعونا نتريث ونتمهل ونبطئ الخطى حتى لا نقع فريسة لذلك الانطباع الأولي أو النظرة الأولى. { بعض الرحيق جذوره من جزيرة ناوا في شمال السودان، تلقى دراساته الجامعية بكلية الآداب بجامعة القاهرة الأم، كان شغوفاً بالإعلام منذ أن كان طالباً بها، تفتحت موهبته الأدبية والشعرية منذ بواكير شبابه، عمل في السلك الدبلوماسي سنوات طويلة، وكانت إحدى محطاته العملية مدينة الضباب لندن حيث قضى فيها أزهى أيام شبابه، كان آخر منصب تقلده هو سفير السودان لدى الشقيقة اليمن، وكان ذلك في بداية عهد الإنقاذ. كان وجهاً مشرقاً لبلاده وسفيراً نابهاً وكان أيضاً شاعراً جزل العبارة جميل المفردة، عميق الفكرة ويكفي أن تكون «يا بلدي يا حبوب» إحدى روائعه التي تغنى بها هرم الغناء السوداني محمد وردي. يعاني هذا الطود الشامخ آلام المرض في صبر وثبات منذ فترة طويلة، قبل عدة أيام زاره في منزله الأخ حاتم حسن بخيت مدير الإدارة السياسية والإعلام بمجلس الوزراء الموقر موفداً من الدكتور محمد المختار وزير الدولة بمجلس الوزراء وذلك للاطمئنان على صحته وحاملاً معه في ذات الوقت رسالة رقيقة من سيادته لشاعرنا المرهف. سيدي الوزير، نشكر لك هذا الاهتمام المتعاظم وهذه المبادرة الإنسانية النبيلة، فقط كل ما نرجوه ونتطلع إليه هو الإسراع بإرساله للعلاج بالخارج على نفقة الدولة لأن أمثاله يستحقون مثل هذا التكريم، نسأل الله لك الشفاء والعافية أخي الشاعر سيد أحمد الحردلو.