ربما يكون هو الوزير الوحيد الذي ملأ الدنيا وشغل الناس طوال فترة تقلده منصب وزارة المالية والاقتصاد الوطني خلال الفترة الأولى للإنقاذ وهو قطعاً رجل مثير للجدل عندما يخطط وعندما ينظِّر وعندما يتحدث عن الواقع، له قدرة عجيبة على قراءة المستقبل الاقتصادي للبلد بطريقة ربما تكون لافتة للأنظار وأحياناً باعثة على الخوف والذهول – وعلى مقربة من ذلك فلا يمكن لأي مهتم ومتتبع لتاريخ السودان المعاصر أن يتجاوز اسم الأستاذ عبد الرحيم حمدي الذي يرجع إليه توجيه وقيادة السودان نحو سياسة الانفتاح والتحرير الاقتصادي و(الخصخصة)، تلك السياسة التي فتحت أبواب السخط من قبل الكثيرين، وخلفت دوياً هائلاً لا تزال آثاره مشتعلة حتى اليوم، وفوق ذلك هو الذي ترك بصمته على كل شيء، حتى على (قفة الملاح).. ولا يزال الرجل يقاتل في خندق الأفكار التي يؤمن بها – فقد بدأ حياته «صحفياً».. ودرس الاقتصاد بجامعة الخرطوم ومن ثم شغل عدة مناصب عليا داخل الوطن وفي مصارف عالمية.. عاد إلى الأضواء مجدداً عندما أقدم على طرح ورقته المثيرة للجدل (مستقبل الاستثمار في الفترة الانتقالية) أو ما عرف (بمثلث حمدي).. في هذا الحوار الخاطف حاولنا أن نقلب معه بعض الأوراق الاقتصادية والسياسية، فبدا الرجل هادئاً جداً كعادته، وغصنا معه في ثنايا المشهد العام دون مواربة.. إلى تفاصيل المقابلة. { في البداية يا دكتور، كيف تقرأ المشهد الاقتصادي على ضوء تجدد الخلافات بين الشريكين بخصوص الموارد واقتراب موعد الاستفتاء؟ - المشهد الاقتصادي ليست له علاقة بالاستفتاء، وخلاف الشريكين الذي هو خلاف واضح أنه لصالحكم، لصالح (الصحافة)، وبعد ذلك يتفقان على كل شيء، فالمعطيات الأساسية للمشهد الاقتصادي الآن هناك نقص هائل في الإيرادات مقابل زيادة هائلة جداً في مطلوبات الصرف العادية على الميزانية التقليدية والمطالبات المهنية والنقابية والولائية، والمطلوبات التي ترتبت على اتفاقيات السلام في نيفاشا وفي أبوجا وفي شرق السودان، بعضها يسير بشكل جيد كشرق السودان وبعضها إلى حد ما، ولو أنه متأخر كأبوجا، وبعضها متأخر جداً، والآن هناك هرولة نحو سداد بعض المطلوبات كما هو حاصل في الجنوب تحت شعار (جعل الوحدة جاذبة) لكن المترتب على هذه الالتزامات كبير جداً، وهذا يخلق ضغطاً شديداً على الوضع الاقتصادي، ويخلق مترتبات أخرى منها الغلاء، لأن جزءاً كبيراً من هذه الموارد كان من الممكن توجيهه إلى توفير موارد أخرى تساعد على تخفيض الأسعار بالإنتاج المحلي، وبالتالي تضغط على سعر الصرف، وهذا أيضاً يضغط على الأسعار لأنه ليس هناك إنتاج في الداخل، والبلاد اتجهت نحو الاستيراد من الخارج وهذه أصبحت ظاهرة مزعجة جداً، وفي ظل تناقص إيرادات الدولة من البترول حدث هبوط شديد في مخزون الدولة من العملات الحرة وهذا أيضاً أدى إلى غلاء الأسعار فهي دورة تغذي بعضها بعضاً، وأدى ذلك إلى كساد في بعض الأسواق، فالمشهد الاقتصادي مليء بالتعقيدات والضغوط بشكل كبير جداً. { طيِّب، وأنت تسقط هذه القراءة على واقع ما قبل الاستفتاء، ماذا لو حدث الانفصال؟ - الاستفتاء ممكن أن ينتج عنه انفصال، وممكن أن ينتج عنه استمرار نوع من الوحدة، لأن الوحدة المتصورة في الاستفتاء ليست هي الوحدة القائمة الآن، وإنما هي الوحدة المبنية على اتفاقية نيفاشا، ويبدو أنَّ ليس هناك وعي كبير بهذه النقطة، يعني استمرار سيطرة الجنوب على كل الجنوب ومقدرات أساسية في الشمال، وقد ينتج عن الاستفتاء انفصال، وفي هذه الحالة الموضوع واضح جداً، انحسار عائدات البترول سوف يكون كبيراً جداً، الآن البترول انخفض عائده بنسبة 70%، والجديد سيكون بعد الانفصال أن هذا الحجم سينخفض بصورة هائلة جداً بنسبة 76% وستكون هناك مشكلة كبيرة جداً في ما يتعلق بالعملات الصعبة في البلد، وأستطيع أن أقول إن الاستفتاء إذا نتج عنه الانفصال سيعقد المشهد الاقتصادي بصورة كبيرة جداً جداً. { بالنسبة إلى البترول الذي أصبح مورداً رئيسياً في الميزانية العامة تعتمد عليه حكومتا الشمال والجنوب بشكل أساسي، فهل تتوقع أن يتسبب في نشوب أزمة وحرب في حال حدوث الانفصال؟ - لا، البترول لن يتسبب في أزمة، ما سيتسبب في الأزمة هو عقول الناس وتصرفاتهم، البترول مادة خلقها الله، مثل الأراضي والمياه، فإذا أحسن الناس استعمالها بذكاء لصالحهم فلن تكون هناك مشكلة، لأن البترول مورد محايد، وإذا قرروا أن (يتشاكلوا) حوله فسيجلب لهم شراً كبيراً، وإذا قرروا أن يهدروه كما حدث في بعض الدول الأفريقية فلن تُرجى منه فائدة، فعندما ظهر البترول في الماضي، كان كل من يهتف ضد الحكومة في الخارج يقول إن البترول سيمكن الحكومة من التسلح وضرب الجنوب، وهذا من تلقاء التحريض الأجنبي، ولو لم يكن هناك بترول أيضاً كان سيكون هناك تحريض، لأن السودان أصلاً مستهدف، فلا تطعن (ضل الفيل)، اطعن (الفيل) نفسه. { ما هي البدائل التي يمكن أن يعتمد عليها الشمال إذا حدث الانفصال وذهب البترول إلى الجنوب؟ - البدائل موجودة، مع أن البترول سلعة عائدها سريع جداً. ممكن أن ترهن مستقبلك له كما فعلنا في سد مروي، سد مروي سوف يسدد على مدار (35) سنة، وبالتالي فهو يعطيك القدرة أن ترهن مستقبلك وتأخذ عليه (قروش)، سلع أخرى ممكن أن تقوم بنفس الدور إذا كانت لها الاستجابة والدخل، فالبدائل المباشرة كما أراها هي الأوراق المالية، استدانة من الجمهور داخل وخارج السودان، فالحكومات كلها في العالم تستدين، ونحن حتى الآن لم نستغل هذا المورد، الاستدانة بمقابل مالي، وهي معروفة عند الناس (بشهامة) أو الصكوك الحكومية، الآن حجم الاستدانة لسداد الدين الداخلي 7% وهذا بسيط جداً لأن حد السلامة المعروف عالمياً 60% من الدخل القومي وهو مورد عندنا فيه براح كبير جداً، والدليل على ذلك كلما تطرح الحكومة طرحاً لشهامة تأتيها طلبات مضاعفة، فهناك أموال تبحث عن استثمار داخلياً وخارجياً، وهذا البديل المباشر والسريع يحتاج إلى بعض التحسينات الربحية وبعض الضمانات. هناك بديل آخر بدأ ينمو ويحقق المطلوب منه، وهو الثروة الحيوانية، إذ ارتفعت صادراتها ارتفاعاً كبيراً جداً، وهي إذا حدثت فيها استثمارات يمكن خلال عام أو عامين أن (تسد فرقة) البترول، وأنا شخصياً أسميها بترول السودان الحقيقي، لأنها مطلوبة في الخارج، مثلاً لا يمكن أن نصدر للسعودية بترولاً وإنما يمكن أن نصدر لها اللحوم، والثروة الحيوانية موجودة في كل أنحاء السودان، حائمة في الفلوات، تحتاج فقط إلى مسالخ ومخازن مبردة ووسائل للنقل، بالنسبة إلى الزراعة فهى بديل رئيس، لكنها قد تأخذ زمناً، فنحن نريد زراعة مستقرة ومبنية على الأسس العملية، وليست الزراعة التى تملي علينا ظروفها لأنها مبنية على الأمطار والجفاف، عطفاً على أن محصولاتنا غير مطلوبة، وهذه البدائل كانت معروفة منذ البداية. { هناك من يتحدث عن مستقبل مظلم للسودان في حالة حدوث الانفصال، فهل يضع المؤتمر الوطني في تقديراته كل هذه الاحتمالات؟ - أنا لا أتكلم معك باسم المؤتمر الوطني، لأنني لا أمثله هنا، وفي تقديري المستقبل ليس مظلماً، فعندما حدث الانفصال بين الهند وباكستان تصور الناس أن البلدين سيسقطان في حفرة، والحقيقة أن الهند رغم الاختلاف الكبير فيها انطلقت وأصبحت دولة شبه عظمى، قد يحدث أن الشمال ينطلق لأن الجنوب بالنسبة إلى السودان تاريخياً عبء اقتصادي ثقيل منذ ما قبل الاستقلال، لأننا نصرف عليه في حالتي الحرب والسلم، وممكن جداً أن تحدث نتيجة إيجابية إذا لم تترتب على الانفصال مشاكل حدودية أو منازعات، والأجواء صفت وتدفق الاستثمار الأجنبي مرة أخرى، ممكن جداً أن ينطلق الشمال، وينطلق الجنوب أيضاً من هناك، وأنا لا أقول الشمال ينطلق على حساب الجنوب، وإنما بدون الجنوب، لأن في الماضي اتسمت الفترة بالنزاع المستمر و(طفشت) منا كثير من الاستثمارات والعمل الاقتصادي، ليس ذلك فقط وإنما أخذت مواردنا كلها وصرفت في الجنوب من أجل الحرب، والآن هذه الموارد ستعود للسلام على قلتها. { لكننا في هذه الحالة قد نخسر أموال المانحين؟ - أصلاً أنا لا أثق في أموال المانحين تلك، ولا أصدقهم، وإخوان كثيرون في الدولة يعلمون ذلك، والأمثلة واضحة فقد تم إغراء الفلسطينيين في أوسلو بفتح أبواب الجنة لهم بعد التوقيع، وعندما وقعوا لم يفتحوا عليهم إلا أبواب الجحيم، وكذلك المعونات التي وعدوا بها العراق وأفغانستان كلها وعود لا تأتي، حتى برنامجنا هنا للمانحين (ثلثاه) من السودان، وهي مهزلة كبيرة جداً ف (5) مليارات يفترض ألا ندفعها نحن، ولذلك أضع للمانحين صفراً على الشمال ولا أعتقد أن هناك دولة عاقلة ترهن مستقبلها للمانحين. { ولكن ربما يكون المانحون في انتظار نتيجة الاستفتاء وبعد ذلك يقررون إرسال الدعم؟ - أصلاً لن يأتوا، وكل هذه أساليب خداع تمارس، كل مرة يأتون بمبررات لتأخير الدعم، كل مرة، أول مبرر للتأخير دارفور، مع أن الدعم للجنوب والمناطق التي تضررت من الحرب موجودة في الشمال والجنوب وهي محتاجة إلى الدعم. { هناك مشروعات تنموية دفعت بها الحكومة للجنوب مؤخراً، فهل من الممكن أن تحمل الجنوبيين على التصويت للوحدة؟ - لا أعتقد ذلك، (أول حاجة) حتى الآن لم تؤت أكلها، ونوع المشروعات التي تترك انطباعاً سياسياً جيداً يجب أن تأخذ فترة من الزمن، ويجب أن تصل إلى كل المستويات، مثلاً الطرق لا تعتبر مشروعات جاذبة سياسياً، لكن المدارس والمستشفيات ينتبه إليها الناس لأنهم يتعاملون معها يومياً، أنا أرى مجهوداً جيداً لكنه متأخر، وأشك في أنه سيأتي بالنتائج المرجوة منه، والسبب الرئيسي حقيقة هو سبب نفسي وسياسي، كما أن هؤلاء يمكن أن تتم تعبئتهم بطريقة سياسية في اتجاه الانفصال، ومن يفعل هذا هو حكومة الجنوب، لأن القرارات السياسية تتخذها النخب عادة وليست الشعوب، مثلاً الناس صوتوا في السودان للاتحاد مع مصر في انتخابات تقرير المصير للسودان سنة (1953) وفاز الحزب الوطني الاتحادي الذي خاض الانتخابات بشعار الاتحاد مع مصر، ولكن قيادت الحزب غيرت الموقف بكل بساطة وأعلنت الاستقلال بكل بساطة، ولا كأن الشعب صوت، ليس هناك التزام إطلاقاً، فالنخب الجنوبية لو أرادت الانفصال فسيحدث حتى ولو شيدنا لهم مئات المشاريع. { طيِّب يا دكتور، بالفعل قامت انتخابات في السودان وكسبها المؤتمر الوطني، فهل تسببت في ذلك الفوز ورقة الاستثمار الخارجي أو ما عرف بمثلث حمدي التي اقترحتها للحزب الحاكم؟ - أعتذر عن إجابة هذا السؤال تماماً لأن الناس أساءوا فهم تلك الورقة. { ولكن المؤتمر الوطني كسب الانتخابات وأنت رسمت له خريطة لذلك الفوز؟ - المؤتمر الوطني فاز لأنه قدم خدمات كبيرة جداً، والناس شعروا بها عبر السنين وهي خدمات ملموسة، والسبب الآخر هو أن المعارضة كانت ضعيفة، والناس لم يجدوا البديل، ولذلك من الطبيعي أن يحقق المؤتمر الوطني هذا الفوز الكاسح. { البعض يرددون أن الورقة التي أعددتها هي التي وفرت البنية التحتية للانفصال؟ -.. لن أعلِّق لك على الورقة، وأنت لم تقرأها، فالورقة كانت عبارة عن إستراتيجية انتخابية «كيف نستفيد من الاستثمار في كسب الأصوات» ولم تكن خاصة بالانفصال أو غيره وقد حملوها أكثر مما تحتمل. { طيِّب، لماذا التمسك بسياسة التحرير الاقتصادي والبلد مخنوق بهذا الكم الهائل من الأزمات؟ - لأنها سياسة ناجحة. { ولكنها تسببت في غلاء الأسعار وفي أزمات معيشية متراكمة وانفلات السوق؟ - لا، أبداً.. غلاء الأسعار والأزمات المعيشية لم تتسبب فيها سياسة التحرير الاقتصادي، بالعكس، الوفرة الحادثة في عدد كبير من السلع سببها سياسة التحرير الاقتصادي، والنقص الحادث ليس سبباً فيه تلك السياسة التي من المفترض أن تساعد في الإنتاج. { عندما كنت وزيراً للمالية أرسلت خطاباً إلى صندوق النقد الدولي اعترفت فيه بتردي الأوضاع، ألا يعني هذا اعترافاً بفشل سياسة التحرير الاقتصادي؟ - من قال ذلك؟ أنا لم أرسل أي خطاب بذلك الخصوص، وعندما كنت وزيراً للمالية في الفترة الأولى أصدر الصندوق خطاباً مشهوراً جداً لكل وزراء المالية في العالم طلب منهم مساعدة السودان، ووافق على أن نصمم برنامجاً نقوم بمقتضاه بإعادة هيكلة الاقتصاد السوداني، وتناولنا هذا الأمر، لكن تراجعت دولة هولندا بعد أن وافقت ثم قالت إن ليس عندها موارد، وطلبت أن نُدخل معنا دول خليجية، ونحن وصلنا مرحلة متقدمة جداً مع الصندوق، وهذا كله كان مقابل أن ندفع لهم (300) ألف دولار في الشهر، وفي ذلك الوقت كان وزير المالية هو مستر برونك الذي طردناه في ما بعد وكان متعاطفاً مع السودان، في الوزارة الثانية دخلت مع الصندوق في مباحثات كثيرة لإعفاء ديون السودان لكن المدير الذي وافق مبدئياً كان مشغولاً وذهب لترشيح نفسه وأصبح رئيساً لدولة ألمانيا، وهذا الادعاء غيرحقيقي، والبنك نفسه أصدر تقريراً قبل ثلاثة شهور يقول إن السودان بسبب تلك السياسات شهد أطول فترة نمو في تاريخه طوال عشر سنين، وتضاعف فيه الدخل القومي خمسة أضعاف. { ولكن ذلك النمو لم ينعكس على حياة الناس؟ - لا.. انعكس، السودان زمان كانت فيه صحيفتان واليوم فيه أربعون صحيفة، التنمية العمرانية التي تراها أمامك يومياً ب (قروش) وليست (بلاش). { (مقاطعة): ولكن تلك الأوضاع مهدت لسيطرة طبقة صغيرة على حساب الأغلبية من فقراء السودان؟ - ليست طبقة، لأن ليست هناك طبقة صغيرة يمكن أن تبني مئات الألوف من المساكن، وليست هناك طبقة محددة تبني آلاف الكيلومترات من الطرق، تلك هي الحكومة وهذه الأشياء يستفيد منها كل الناس، المطاحن أو المخابز اليوم تصنع (25) مليون رغيفة في اليوم، فهل هناك طبقة صغيرة تأكل هذه الكمية من الرغيف؟ (يأكلها مجموع الشعب)، الصيدليات، والسيارات، وصل مجموعها الآلاف، فهل هي ملك لأقلية؟ هذا الكلام غير صحيح.