أكد وزير المالية الأسبق والخبير الاقتصادي المعروف د.عبد الرحيم حمدي أن اتفاق السلام أوجد ضغوطاً كثيرة على الوضع الاقتصادي، بسبب الالتزامات الاقتصادية المالية المباشرة المتمثلة في المشاريع التي يفترض أن تنفذ وفقاً لاستحقاقات السلام، بالإضافة للتكاليف الضخمة جراء إنشاء الأجهزة المخصصة لمراقبة تنفيذ اتفاق السلام، حيث دخلت مفوضية مراقبة الإيرادات كعنصر جديد لمراقبة كيفية الصرف مما أفقدنا استقلاليتنا والسيطرة وهو ما وصفه بالتأثير المهم. وأشار حمدي في حوار أجراه معه المركز السوداني للخدمات الصحفية إلى أن تحمل الحكومة لنفقات طباعة العملة بدلاً عن المانحين لارتباطها بمواعيد محددة وفقاً لاتفاق السلام قد ألقى ذلك بظلال سالبة على الاقتصاد السوداني. وقال حمدي إن المفوضيات التي تراقب أساساً لصالح الصرف في الجنوب ستختفي، لأن وجودها سيكون بدون مبررات مما سيولد ذلك وضعاً جديداً وقسمة جديدة للبترول، وستكون بالمستقبل حسابات مختلفة. وتطرق الحوار للتأثير الاقتصادي لاتفاقية السلام والتطورات المالية المحتملة جراء ذلك التنفيذ لاتفاق الشريكين وما ترتب عليه، بالإضافة لعدد من الموضوعات ذات الصلة فمعاً لمضابط الحوار: إلى أي حد تأثر الاقتصاد السوداني باتفاق السلام باعتبار أن الحكومة ركزت عليه بصورة كبيرة حتى ينفذ؟ والله أنا لا أعلق على نسبة التركيز هذه، ولكن اتفاق السلام أنشأ ضغوط كثيرة جداً على الوضع الاقتصادي، بسبب أولاً أنه أنشأ التزامات اقتصادية مالية مباشرة متمثلة في مشاريع معينة تنفذ في المناطق المتأثرة بالحرب بإصلاح أشياء معينة، والتأثير في مجمله يرتكز حول استحقاقات السلام، وهي عبارة عن مبالغ مالية تصرف لمشاريع معينة ولأغراض معينة في أماكن محددة. والالتزام الثاني جاء من إنشاء أجهزة كثيرة جداً وهو شيء مكلف للغاية.. هذه الأجهزة مهمتها هي مراقبة تنفيذ اتفاقية السلام في أجزاءها المختلفة، فمثلاً الإيرادات الحكومية كان في السابق البرلمان هو الذي يقوم بمراقبتها، ولكن الآن دخلت مفوضية مراقبة الإيرادات كعنصر جديد، ودخل فيها عنصر عالمي، أي فيها جهات عالمية لتراقب كيف يتم صرف الإيرادات.. فقدنا الاستقلالية والسيطرة على كيفية التصرف في بعض الإيرادات. وهذا تأثير مهم جداً في أن الدولة ما لم تتمكن من السيطرة كلياً على إيراداتها وطريقة التصرف فيها فهذا سيؤثر على الكثير من الالتزامات فيها، وهذا أثّر عبر السنوات الماضية. والتأثير السلبي الثالث هو جاء من التزامات دولية مفروض تساعد الاقتصاد و المالية العامة، ولكن هذه الالتزامات لم تأت. وكان مفترض أن تسد بها فجوات معينة في التنمية والخدمات، مما ترتب عليها أن بعضها الحكومة اضطرت أن تصرف عليه بعضها مباشرة وأبرز مثال كان طباعة العملة، حيث أن المانحين لم يقوموا بطباعتها ولم يوفوا بالتزامهم مما اضطر البنك المركزي لطباعتها، لأنها مرتبطة بمواعيد محددة، وهذا تأثير سالب لاتفاقيات السلام، وهو أن أطراف الاتفاقيات الدولة وهم المانحين لم يوفوا بالتزاماتهم بنسبة كبيرة و تقارب ال90%، وهذه هو التأثير. هل تعتقد أن ذلك التأثير سينسحب على المستقبل أم أنه وقتي وسيزول إذا ما تحقق الانفصال أو الوحدة؟ هذا يتوقف على نهاية اتفاقية السلام وهي لها توقيت وتنتهي بعد الاستفتاء بستة أشهر، والكيفية التي ستنتهي بها لو كان انفصال أو وحدة، فالمانحين بعدها لن يكون لديهم التزامات ولن يوفوا بها، والمفوضيات التي تراقب الإيرادات فهي تراقب أساساً لصالح الصرف الجنوب وهي ستختفي ولن يكون لها مبرر، والوضع سيكون وضع جديد، حيث ستكون قسمة البترول جديدة، والمستقبل ستكون له حسابات مختلفة تماماً عن الحاصل الآن. وهل هذه الحسابات سالبة أم إيجابية؟ فيها الإيجابيات والسلبيات. وما هي؟ لا أعلم فهذا يتوقف على النتيجة فإذا حصلنا من البترول مثلاً على نسبة تغطي على الأقل الحد الأدنى من التزاماتنا لتسيير الاقتصاد فستكون هذه مسألة ايجابية، وإذا لم تحصل تلك النسبة فسنضطر إلى أن نستورد بترول وغالباً ما نشتريه من الجنوب، ومعناها ستتأثر الميزانية العامة بشكل كبير ومحسوس وهذا الحالة رهين بما يحدث، وأما التصنيف ما بين السلب والإيجاب فسهل جداً، و لكن ما سيحدث فهو يتوقف على الاتفاق على البترول وأسعاره والحجم المتاح الآن في الشمال. ألا تعتقد أن مراقبة تلك الدول لصرف إيراداتنا قد ألقى بظلال سالبة؟ نعم وهذا ما قلته لك، فهو سلب حريتنا في التصرف في هذه الإيرادات وسلب جزءاً من سيادتنا المالية عليها، بدلاً من أن نخصصها مثلاً للصحة أو لشرق السودان مثلاً أو لتسريح الجنود، فسأضطر إلى أن أخصصها لجهات أخرى متفق عليها، ومؤكد هي قد حدت من حرية متخذ القرار في التصرف في الإيرادات. ألا تعتقد أن هذه تحديات اقتصادية كبيرة تواجه الحكومة؟ طبعاً وهي بالفعل تحديات، لأن الناس ستبحث عن إيجاد بدائل لها لأن الواقع سيتغير بصورة سريعة، فلابد من إيجاد بدائل، وأحياناً إيجاد البدائل غير متاح بهذه السرعة. وهل هو يحتاج هذا لدراسات مسبقة مثلاً؟ يحتاج لتنفيذ غير الدراسات وهو معروف، فمثلاً إذا كنت تريد زيادة في الإيرادات فأنت محتاج للتصدير مثلاً وقبله زيادة في الإنتاج حتى تقوم بتصديره أو بيعه في السوق المحلي، ولكن هذا يحتاج لمواد ولوقت والبدائل غير متاحة بالصورة المطلوبة. وكيف ستتصرف الحكومة إذا ما فشلت في تغذية الأسواق بالصادر من المنتجات والتي هي في رحم الغيب حسبما فهمت وتحتاج لوقت؟ لم أقل إذا ما فشلت الحكومة، ولكن تحدي إيجاد الصادرات بصورة أكبر لتحل محل البترول هو تحدي يواجهنا لأكثر من أربعين أو خمسين عاماً ومنذ الاستقلال تحديداً، حيث بدأت المسألة بتنويع المنتجات مثل مشروع الجزيرة وإدخال محصولات نقدية فيه بخلاف القطن وهذا تحدي حتى الآن لم ننجح فيه نجاح باهر، وصناعتنا لم تكن مصوبة نحو التصدير بل كانت مصوبة نحو بدائل الواردات لتحل محل بعضها، وهذا تحدي واجب كل الحكومات السابقة واللاحقة، فهذه الحكومة مثلاً لا نتوقع منها أن تستقيل، نقول في يوم من الأيام أنها استقالت لأنها لم تستطع أن تصدر ما يكفي كبديل للبترول.. فهذا لن يحدث. هل تعتقد أن الحكومة لم تضع الخطط اللازمة لمقابلة خذلان المانحين فكانت النتيجة أنها صدمت اقتصادياً؟. لا.. وما هي الخطط المناسبة هذه؟ نجد أن المانحين قد وعدونا بأربعة مليار وثمانمائة ولم يدفعوها، فهل لدى الحكومة مبالغ مرصودة في منطقة أخرى لتسد بها تلك المبالغ؟ ولذا فكما قلت لك هذا تأثير سالب جداً في اتفاقية السلام وهو فشل المانحين في دعمها، ولذا الحكومة ليس لديها طريقة سوى عدم تنفيذها كما هو موجود في البرنامج المعنى والمتفق عليه من مشروعات.. (وما في قروش ما في تنفيذ وبس). وهل إعفاء السودان من ديونه الخارجية يمكن أن يخفف من أزمته الاقتصادية؟. لا لأنها الآن لا تشكل أزمة اقتصادية وغير مسبب لأي مشكلة، لأننا أعفينا أنفسنا من سداد ديوننا الخارجية بصورة عملية، حيث قلنا للجهات التي لديها مبالغ لدينا أننا دولة فقيرة ولا أموال لدينا وعندما تتوفر في المستقبل سندفعها لكم، والآن لا ندفع لأي بلد ولا لأي صناديق، وهناك صناديق جدولنا معها جدولة طويلة جداً مثل الصناديق العربية وبعضها ندفع له دفعيات محدودة مثل صندوق النقد الدولي شهرياً، وأما الاتفاقيات الثنائية والجماعية والبنوك فنحن لا ندفع لها، فلذا الديون الخارجية غير مؤثرة علينا ولا توجد دولة قاطعتنا لديوننا، بل نتمتع بعلاقات جيدة مع كل الدول. في رأيك هل ستقوم الحكومة بتقليل الإنفاق على المستوى الدستوري وعمل تقشف مثلما تعمل الآن ايرلندا وغيرها من الدول الأوروبية لمقابلة أزمتها المالية؟ هذا هدف معلن في الميزانية ومقرر، ومعناه أن الحكومة ستعمل تقشف سواء أن كان بالنسبة للدستوريين أو غيرهم أو المصاريف التشغيلية عامة، ولننتظر لنرى ما ستفعله الحكومة. ولكن كان أن هوجم وزير المالية قبل أيام عندما أعلن خطة التقشف هذه؟ مقاطعاً: ومتى سيصفق الناس لوزير المالية؟ هذا لن يحدث وهو دائماً موضع هجوم. على ذلك هل تعتقد أن البترول السوداني كان حلم وانتهى؟ لا البترول السوداني بدأ ب(140) ألف برميل والآن وصل إلى نصف مليون برميل، ويعدنا وزير النفط الجديد بأنه سيصل لمليون برميل في المستقبل القريب وهو لم يحدد أفق زمني محدد، وهناك شيء أهم من كل هذه الوعود كلها وهو أن هناك عمليات استكشاف جارية في عدد كبير من المربعات في الشمال والغرب وفي الأواسط وقد ينتج عنها شيء، ولذا يمكن أن يتغير الوضع جداً خلال السنوات القادمة. وهل تتوقع أن توظف حكومة الجنوب بترولها كما الشمال؟ لا أدري، ولكن النفط الآن في الجنوب يشكل الميزانية كلها وجزء كبير منه موجه نحو الجيش وآخر للخدمة المدنية واحتياجات جهاز الدولة وجزء بسيط جداً يذهب للتنمية، وعندما تزيد حصتهم قد يستغلوها بصورة واعية ومسئولة لإحداث جزء من التنمية والبنيات التحتية والخدمات، وقد يحولوا جزء من الإنفاق العسكري الكبير غير المطلوب الآن إلى التنمية لأنهم مواجهين بوضع خطير جداً، وإذا رحل إليهم مئات الألوف من الناس فسيشكلون ضغطاً شديداً عليهم.. فكيف ستتصرف حكومة الجنوب حينها؟ هذا ليس شأني، ولكن أتمنى أن تتصرف جيداً لأن أي تصرف غير سليم سينعكس عليها، فإذا لم يصرفوا جيداً نحو التنمية والخدمات الأساسية مثلاً فمن الممكن أن تحدث هجرة نحو الشمال، والناس عندما تجوع فهي تهاجر وسبق أن جاءتنا هجرات من إثيوبيا وإريتريا وتشاد، ولذا فالناس تهاجر بأرجلها إذا جاعت. ما تعليقك على الارتفاع الجنوني في الأسعار والحكومة لم تتبرأ من ذلك حسب وصف الشارع؟ مقاطعاً وبحدة: أولاً أنا أرفض استخدام لفظ جنوني هذا وأن الحكومة لم تتبرأ من هذا الارتفاع. ولكن هذا واقع والمواطنين الذين جأروا بالشكوى من أن هناك ضرر عليهم واقع؟ أي بلد فيها ارتفاع أسعار، في الكويت مثلاً قاطعوا الطماطم لأنها مرتفعة، والصين تقوم حالياً بإجراءات لتخفيض الأسعار. هل تظن أن هناك ارتفاع طبيعي للأسعار وآخر غير طبيعي؟ جزء منها طبيعي والآخر غير طبيعي، وهناك جشع وهناك شيء موسمي كالطماطم مثلاً وأسعارها انخفضت إلى جنيهين ونصف. ألا يعتبر الجشع هذا جريمة؟ وهل هي جريمة نفذتها الحكومة مثلاً؟ ولكن أريد أن أعرف المسئول عن ارتفاع الأسواق والأسعار؟ المسئول عن الجشع هم الناس الجشعين، وإذا تمكنت الحكومة من محاسبتهم وتثبيت الجريمة عليهم فلتفعل. أنا أقصد أنه لا يوجد التزام بالأسعار المحددة؟ لا يوجد التزام لأنه لا توجد أسعار، فالسلعة عندما تأتي بها الحكومة مثل السكر وتعلنها بسعر محدد مفروض أن يلتزم الناس به، ولكن الحكومة الآن لا تعلن أي أسعار لأي سلعة. ألا توجد آلية لمقابلة عدم الالتزام بالأسعار؟ الآلية الوحيدة هي أنك إذا كنت متحكم في سلعة وجئت لتوزعها على التجار وقلت لهم توزعوها بسعر كذا مثلاً وفشلوا فإذا ثبت عليهم عدم الالتزام ينبغي محاسبتهم وتمنع عنهم السلعة مرة أخرى، والآلية هي القانون وهو موجود إذا اختارته الحكومة.