هل يقبل أي مسؤول إداري في أي موقع صغير أو كبير، ألا تحترم وتنفذ تعليماته وتوجيهاته؟. بالطبع لا، إلا إذا كان لا يعرف أن جهازه الإداري والتنفيذي الممتد من باب مكتبه إلى المواطن يمارس معه الخداع ويغذيه بمعلومات خاطئة. هل تسكت أية دولة على الالتفاف على تعاليمها وأنظمتها؟. بالطبع لا، إلا إذا كانت لا تدري أن جهازها البيروقراطي المنوط به توصيل وتطبيق التعليمات والأنظمة يمارس الانتهازية والتكسب في سلسلة طويلة من الحلقات البيروقراطية الفاسدة ثم يغذي المركز الرئيسي بالمعلومات الخاطئة وأن كل شيء على ما يرام. الملاحظ على كل الإدارات الفاسدة أنه كلما كانت سلسلة المتطلبات الرسمية طويلة صار الفساد الإداري أسهل واكتشافه أصعب. تطويل الحلقات في الإجراءات الإدارية يستعمل كوسيلة للتعمية وطمس الآثار. لذلك يصعب تتبع آثار التلاعب والارتشاء في معاملات نقل الملكيات والمنح العقارية وفي تراخيص المساكن والعيادات والمستوصفات وغيرها من المنافع العامة، وأيضاً في تنظيم المواعيد وتسيير المعاملات الإجرائية الرسمية. الذي لا خداع فيه الجزم بأن المواطن عندنا يعاني أشد المعاناة من رداءة موظف القطاع العام (الحكومي) وسوء تعامله واستهتاره بتعليمات الدولة وأنظمتها، وأنا متأكد أن هذا انطباع شعبي شامل عن جهازنا البيروقراطي السائد. لهذا السبب بالذات أصبح السائد اجتماعياً التعامل مع البيروقراطية الحكومية بالواسطة أو تبادل الخدمات أو الرشوة، إلى آخر ما في الجعبة الشعبية من وسائل تيسير الأمور و(تزييت السيور). الفساد الإداري له بنيته الهرمية المتماثلة مع البنية الهرمية للبيروقراطية. في المساحة الصغيرة لأعلى الهرم تنعدم مظاهر التسيب والاستهتار لأن المسؤولين الجالسين هناك معزولون عن جهازهم التنفيذي ومخدومون في خصوصياتهم وهم في مكاتبهم، وهذا وضع مفهوم إذ ليس المفترض بالمسؤولين الكبار إضاعة الوقت والجهد في الركض وراء الاحتياجات الخاصة بل التركيز على تسيير الأمور العامة. لكن المشكلة تقبع هنا داخل هذه الميزة التي تجعل المسؤول الكبير غائباً عن الميدان التطبيقي للأنظمة وغير مدرك لما يجري هناك. إذا أضفنا إلى تلك العزلة المريحة عدم حصول المسؤول على الوصف الحقيقي لأوضاع الناس لأنه إما محاصر من قبل جهازه البيروقراطي أو غير مستعد لتلقي أي معلومات إلا منه أو من مكتب علاقاته العامة، عندئذ نستطيع أن نقرأ على التنظيمات واللوائح تحية الوداع! جاسر عبدالله