{ كنتِ ركيزة لعمري، لهذا لم يؤلمني قلبي بعد رحيلكِ القسري بقدر ما آلمني ظهري حتى كدت أسير بعدك على أربع، لقد انحنيت بعد موتكِ كثيراً، وانحناء ما بعد الفراق يجعلنا نبدو أكبر سناً وأكثر عجزاً وضعفاً، ولا أعلم كيف أنعم عليّ الله بأن حول قلمي بعدكِ إلى عكاز عليه أتكئ كلما استحضرتكِ وشعرت بهول غيابك، لم يعد قلمي سلاحاً لمحاربة الفساد والأشرار والمثالب فحسب، ولكنه تحول إلى وسيلة للتعبير والترويح (والفضفضة). فقد كنت ألقي بأعبائي وأسراري عليك، وأحكي لكِ تفاصيلي بشفافية ووضوح وأنتظر توجيهاتك وملاحظاتك ونصائحك بلهفة وأُصغي لحكاياتك وتجاربك بشغف واقتناع، وفجأة، حملتِ بعضكِ ورحلتِ. { ولو لا قلمي هذا لتساقطت منذ زمن، فأشد ما أرعبني اكتشافه بعدك أن للعمر ركائز وأن بعض البشر ركائز لأعمارنا، وأنه عندما ينكسر عمود الإنسان يسقط بعضه، مثلما يسقط البيت بسقوط عموده وبما أنك كنت ركيزة عمري وعموده، فقد سقط بانكسارك البيت والعمر.. وأنا. { وركائز العمر تتعدد، فالأم ركيزة، والأب ركيزة، والحبيب ركيزة، والزوج ركيزة، والابن ركيزة، والصديقة أو الصديق ركيزة أساسية في مرحلة ما، حين تشعر بالاستغناء عن كل العلاقات الأزلية المفروضة عليك بفعل القرابة والدم وتستكين لاختيارك الحر الذي وجدته في هذا الصديق، وقد كنتِ صديقتي الأثيرة، المختارة، وبرغم أنكِ لم تسقطي عليّ من السماء، ولا نبتِّ من الأرض وكنتِ كسائر البشر إلا أن كل ما فيك كان خاصاً ومختلفاً ومميزاً! { لم تكوني مجرد حكاية مفضلة، ولا كنت ِحدثاً خارقاً، ولا صداقة خاصة، ولا مرحلة انتقالية، ولكنك أصبحتِ كل عمري بامتداد مراحله وعلاقاته وصداقاته وحكاياته وأزماته وهمومه. وكنت أنا غجرية متطرفة لا تجيد تعدد علاقاتها وصداقاتها وتؤمن بمبدأ الرجل الواحد للعمر الواحد والصديقة الواحدة كذلك. { ومع أننا لم نولد في زمن الحرب، ولا زمن الكوليرا، إلا أن الموت يباغتنا كعادته ويسرق أجمل ما فينا ومن فينا، وها نحن أخيراً، عُزِلَ كلانا في عالم لا يمت للآخر بصلة، ورغم أنني كنت مسكونة بك، ورغم أنكِ كنتِ تحلقين في حياتي رغم البعد كطائرة ورقية، كنت أنا أمسك بك بحرص طفلة تخشى غدر الرياح، لكن خيطك انقطع فجأة من يدي وأخذتك الرياح إلى حيث لا أعلم ولا أرى ولا أسمع. { وها أنا، وحيدة دونك، بعيداً عن مقاعد الدراسة المشتركة، والأسرار المشتركة والذكريات المشتركة، والأحلام المشتركة، أصبح للخيال النصيب الأكبر في علاقتي بك وأصبحت دونك أقضي العمر وحيدة على شواطئ الوهم أبني قصور الرمال فتتهالك سريعاً لأنني أنسى أن أجعل لها ركيزة، وكل شيء دون ركائز يتهالك ويهوي. { والمصائب تكسر ركائزنا، وتعرينا، وتكشفنا من جميع الجهات. والموت يغيب أعزاءنا ويكسرنا ويهزمنا ويذرونا برياح الوحدة والفقد والحزن العظيم. { تلويح: وداعاً.. صديقتي، ولنا الله.